التجديد في منهجية الأصلين الشرعيين.. أصول الدين وأصول الفقه

رمزي ديشوم 

28 يناير 2025

4902

لا نخطئ أبداً لو قلنا: إن القرآن الكريم كتاب إيمان وتوحيد، وأنه نزل أول ما نزل للتعريف بالله تعالى، وما له من كمال الصفات والنعوت، وما على العبد تجاهه من فروض الطاعة والخضوع، قال تعالى: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ {1} أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) (هود).

ولذلك، امتاز الأسلوب القرآني في طرح القضية الإيمانية، أو القضية التعبدية، بأسلوب فريد وخاص، يهدف إلى أقصى درجات التأثير؛ إذا أنذر وخوّف يبلغ بالعبد درجة تكاد تنخلع معها نياط قلبه وقواعد فؤاده رهبة ووجلاً، وإذا بشّر ورغّب يبلغ بالعبد درجة تكاد تطير معها ثوابت عقله وروحه رغبة وفرحاً.

عماده في ذلك لغة عربية معجزة تختزن كل أساليب التأثير والتوضيح، وتشتمل على مفردات بلاغية لا حصر لها، وصور بيانية لا حدود لها، يحشدها في نظم لغوي، وجرس صوتي استثنائيين، يبلغان بالسامع أعلى درجات الاستجابة.

وأول شيء يفعله القرآن في هذا الصدد التمييز الواضح والكامل بين المخاطِب، وهو الرب وما له من صفات الكمال والجمال، والمخاطَب وهو العبد وما له من صفات الضعف والافتقار، ولتأكيد هذه الحقيقة في النفوس وترسيخها في الضمائر يكثر القرآن من ضرب الأمثلة الحية والمشاهدة، التي يطالعها الإنسان في كل زمان وفي كل مكان.

ينتزع الأدلة أول ما ينتزعها من ذات الإنسان؛ من خلقه وما اشتمل عليه من آيات، ومن جسمه وما اشتمل عليه من معجزات؛ (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21)، (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (الطارق: 5)، (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) (الروم: 8).

ثم يفتح عيني رأسه وقلبه على الأدلة الحية التي تحيط به من كل الجهات، التي يعيش بها ومعها، وتعيش به وله، فيوجه بصره وبصيرته إلى الآيات الكثيرة والعظيمة التي يخالطها في كل ساعة ويوم: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ {24} أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً) (عبس)، (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (الغاشية: 17)؛ ليجعل الإيمان بهذا الربط حياً متجدداً كل لحظة وحين، ينمو ويزكو كلما رمى الإنسان ببصره يميناً أو شمالاً، مطالعاً تلك الآيات الحية الناطقة بعظمة الله وقدرته.

ثم يثني القرآن بما يجب لهذا الرب من فروض الإجلال والتعظيم، وما يجب على العبد من فروض الخضوع والاستسلام؛ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54).

فيجعل إجلال الله وتعظيمه، والخضوع له وعبادته، نتيجة طبيعية، بل وحتمية لمعرفة الله من خلال أنفسنا وكوننا، في ربط عقلي منطقي، وربط نفسي وجداني، إذ كيف يعقل أن تكون مخلوقاً لله تعالى، ولا تكون عبداً له، بله أن تكون عبداً لغيره، وكيف يقبل أن ترفل بنعم الله تعالى، ولا تشكره عليها، أو تصرف الشكر لغيره؟!

ولإحكام هذه الصلة وتوثيقها، يذهب القرآن بالإنسان إلى تلك اللحظات التي تنعدم معها أسباب القوة والإعراض، وتتساقط دواعي الكبر والإعجاب، ويقف فيها عاجزاً ضعيفاً مضطراً، حيث يعود في تلك اللحظة إلى الفطرة الحق العارية عن الأغطية والحجب التي تمنعه من الخضوع لله والافتقار له؛ (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً) (الإسراء: 67).

والقرآن عندما يصور خضوع الإنسان في أقصى درجات اضطراره إلى الله تعالى يقصد أن يثير فيه شيئاً ثميناً يمتاز به ويعتز به، وهو حريته واختياره، وتمييز الله له عن جميع المخلوقات بالحرية والعقل، ليقول له: قمن بك وأنت تعتز وتفتخر بذلك، أن تقودك هذه الحرية، وأن يحملك هذا العقل، إلى الإيمان بالله والخضوع له اختياراً لا اضطراراً.

ثم يثلث القرآن بأن يطالب الإنسان بالخضوع لله والاستسلام له في كل مناحي الحياة وجوانبها، إذ يجعل الإيمان أساساً تنبعث منه نظم السياسة والحكم، وقوانين الاقتصاد والمال، وقواعد التربية والتعليم، وضوابط الاجتماع والمعاش، ويرفض رفضاً قاطعاً هذا الفصل المشؤوم بين الإيمان القلبي، والاعتراف اللساني، والالتزام العملي، بل يجعل كل ذلك إيماناً، ويربط بينها ربطاً وثيقاً لا ينفك، وربما جعل كل واحدة دليلاً على الآخر وجوداً وعدماً؛ (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47} وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ {48} وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ {49} أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (النور).

وعلى هذه المحاور الثلاثة الكبرى تدور الرؤية الإيمانية في القرآن والسُّنة، نستطيع أن نرد كل آية من آيات القرآن الكريم، أو نصاً من نصوص السُّنة النبوية الشريفة إلى واحد من هذه الأصول الثلاثة لا تخرج عنها بحال من الأحوال، بل ربما ترد كل آية أو سُنة إلى هذه الأصول الثلاثة معاً، في ترابط يجعل النظرية الإيمانية نظرية علمية عملية، ومتحركة فاعلة، تنطلق من النفس والقلب للتجلي في الآفاق والكون.

وتأسيساً على ما سبق، يمكن أن نضع بعض القواعد أو الضوابط التي تشكل منطلقات لتجديد الأسلوب العلمي في طرح العقيدة الإسلامية:

- المقصد الأساس مما يسمى بـ«علم العقيدة» معرفة الله تعالى، وتنشيط القلب، وتحفيز العقل لذلك، ولا يوجد أبلغ ولا أفعل من الأسلوب القرآني ثم النبوي في الوصول إلى ذلك.

- المقصد الثاني مما يسمى بـ«علم الفقه» تعبيد الإنسان لله وإخضاعه له، وكذلك لا يوجد أبلغ ولا أفعل من الأسلوب القرآني ثم النبوي في الوصول إلى ذلك.

- إن الأسلوب الكلامي الفلسفي الذي يجهد العقل ويضنيه في اختراع أساليب وطرائق منطقية صورية، ووضع قواعد حديدية جامدة في التعريف بالله تعالى أو تعبيد الإنسان له لم ولن تفلح أبداً في ذلك، ما دامت تأخذ شكل القوالب الجامدة التي تستثني كل مكونات الإنسان لتركز على عقله فقط.

- إن الأسلوب الأصولي القواعدي الذي يحشر النصوص القرآنية والنبوية في محدداته وضوابطه، ويجعلها حاكمة عليهما، ومكبلة لهما، وينزعها من سياقاتها الظرفية، أو شموليتها الإنسانية، وينتج منها فتاوى مطلقة عن مصادقاتها أو ملابستها، وما يحتف بها ويحيط بها من ظروف ومناخات، إن هذا الأسلوب يستفز في الإنسان الرفض أكثر ما يستدعي منه القبول.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة