التديُّن الفردي.. الخلاص الآمن!
مياه كثيرة
ومتغيرة تجري في حقل التدين منذ سنوات تحتاج إلى ملاحظة وتحليل وتفسير لفهم تلك
التحولات الذي تتحرك ببطء لكن بعمق وانتشار وتأثير كبير، محدثة تغيرات في شكل
التدين وقيمه.
ولعل من أهم تلك
التغيرات انتقال التدين من الحالة الجماعية أو الجماعاتية إلى الحالة الفردية، التي
يبني فيها الفرد بمفرده رؤيته وتصوره حول علاقته بالدين، وكذلك كيفية تجلي الدين
في حياته الشخصية أو في تعبيره عن تدينه في المجال العام.
هذه المقالة
ليست قولاً نهائياً، ولكنها تجمع بين المشاهدات، ومقارنتها بنماذج من حالة التدين
في العالم الذي يشهد نمواً لفردانية التدين، وبناء الفرد لنموذجه الديني من خلال
تجربته الشخصية بعيداً عن تأثير المؤسسات الدينية أو الجماعات والقوى الدينية
المنظمة.
هذا النموذج
الجديد الذي يكتسح ساحة التدين، خاصة الشبابي، يبحث عن الخلاص الفردي، دون أي شعور
بدور إصلاحي أو دعوي تجاه المجتمع، وكأنه يعيد إنتاج نموذج فئران السفينة؛ وملخصه
إذا كانت السفينة تغرق فإن الفأر هو أول من يبحث عن النجاة.
ملامح وأسباب التدين الفردي
نحن أمام حالة
إنسانية، وظاهرة تتعرض لها الأديان يتخلخل فيها مفهوم الجماعية والمسؤولية للفرد
تجاه مجتمعه ليحل مكانها البحث عن خلاص فردي، ومن الملامح التي يمكن رصدها:
1- تراجع مفهوم الأمة لصالح الانتماءات الأقل وصولاً إلى الفرد:
يلاحظ في
السنوات الأخيرة تراجع مفهوم الأمة عند أعداد غير قليلة في المجتمع، مع إعلاء الانتماءات
الأقل وصولاً إلى الفرد، وهذا التراجع يبدو جلياً في حجم المساندة التي حظيت بها
غزة أثناء العدوان الصهيوني عليها، أو في أحداث الفاشر في السودان، فالفرد بات
منصرفاً إلى همه الشخصي، ويرى أن قدرته على الفعل أو التغيير تبدو منعدمة، وأنه لا
سبيل أمامه إلا نفسه، ومن ثم تراجعت السرديات الكبرى كالأمة لصالح الذات الفردية
أو القبلية أو الحزبية الجماعاتية أو الوطنية.
ربما أدت الضغوط
السياسية دوراً في بث بذور الفردية واللامبالاة تجاه روح الأمة، فوجود الضغوط
المستمرة لمدة طويلة أعادت تشكيل العقل والوجدان لصالح الخلاص الفردي، وأصبح هَمّ
الفرد من تدينه الالتزام بشعائره التعبدية، ويلاحظ أيضاً أن مفهوم الأمة يُعاد
تشكيله في المخيال الإسلامي، بصورة يبدو فيها هذا الالتزام عبئاً ثقيلاً يصعب تحمل
تبعاته.
2- نمو الحياد تجاه الحياة:
هذا المفهوم جعل
الشخص غير مبال بما يدور حوله؛ فلا يسعى لإصلاحه أو تغييره، فتراجع الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر تجاه الكثير من المفاسد، واختبأ هذا التراجع خلف احترام
الخصوصية، أو تنامي «الأناملية»؛ أي ليس لي علاقة بما يدور حولي، المهم أن أصلح
نفسي فقط.
لذا، تراجع
مفهوم الدعوة الصحيحة لصالح خطابات وخطب ليس لها علاقة بواقع الحياة أو مشكلات
المجتمع، ربما ما عمَّق هذا في بعض المجتمعات نموذج «الخطبة الموحدة» التي تفرضها
المؤسسة الدينة في بعض البلاد، حيث تأتي أغلب الخطب بعيداً عن حياة الناس
ومشكلاتهم، فصم الشخص أذنيه عن السماع.
3- أنت شيخ نفسك:
هذا الشعار
الظاهر والمستتر هو الذي يحكم حركة الكثير مما يجري في حقل التدين، فسهولة وصول
الفرد للمعلومة الدينية، وتراجع الثقة في مؤسسات وشخصيات دينية كبيرة أقنعت الفرد
أن يكون هو شيخ نفسه، وأن يبحث عن تدينه من خلال تجربته الشخصية، التي ترتكز على
خلاصه الفردي في المقام الأول.
ونجد هذا الأمر
موجوداً في التدين العالمي، ففي دراسة نشرها معهد «PRRI» أو «معهد
أبحاث الدين العام» في الولايات المتحدة عام 2024م، أورد مجموعة من الإحصاءات
المهمة، منها انصراف الشباب عن التدين، وأنهم الأقل حضوراً للشعائر الدينية،
والأقل اهتماماً بالنصوص الدينية أو التبرع للمنظمات الدينية مقارنة بغيرهم من
فئات المجتمع التي تكبرهم.
هذا الانصراف
شجع الشباب للبحث عن الطمأنينة بصورة فردية، فبعضهم رمى نفسه للإلحاد والشك،
وآخرون وجدوها في الاهتمام بالجانب التعبدي والشعائري، دون أن يكون لهم دور
إصلاحي، وآخرون سعوا لبناء روحانية تستفيد من الدين دون أن تنتمي إليه أو تلتزم به؛
ومن ثم أعاد هؤلاء التفكير في الدين وكذلك كيفية التعبير عنه.
4- الرقمية بيئة لفردية التدين:
الرقمية أعلت من
مفهوم الخصوصية الشخصية، وفتحت أذهان الشباب على تجارب مختلفة، كما أنها وسَّعت
مجال الاختيار الديني، وأصبحت المعلومات الدينة تغمرهم بسهولة، وسهولة الحصول
عليها، شجعت على فردية التدين خاصة أنهم يرون أن ما يدور حولهم لا يفهمونه جيداً،
ولم يشاركوا في صنعه، كما أن تكاليف التدين الإصلاحي أصبح ذا تكلفة عالية وهم غير
قادرين على تحملها.
الرقمية كانت
وسيلة رئيسة للأجيال الجديدة لفهم الدين، كما أنها كانت ذا تأثير في تغيير أنماط
التدين، فأصبح التدين أقل التزاماً بتعاليم الدين، لكن الأهم تحول الرقمية كوسيلة
لتعلم الدين والتفاعل مع التجارب الدينية المتنوعة.
كما أن الرقمية
سمحت للمؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي أن يعيدوا تشكيل التدين في الفضاء
الرقمي كنوع من الخلاص الفردي، وبات التدين تفاعلاً في العالم الافتراضي أكثر من التزامه
بإصلاح المجتمع، كما أن الرقمية ساهمت في تعلم فوري للدين لكن بلا عمق.
5- نمو المسارات البديلة:
هذه ظاهرة عمَّقت
التدين الفردي، والمقصود بالمسارات البديلة الأنشطة المختلفة والفنون والهوايات
والتأمل والرحلات، هذه المسارات تنمو وتتكاثر في أوقات الأزمات وغياب المعنى، حيث
يحفر الشخص معنى جديداً للحياة من خلالها، وأغلب تلك المسارات تُعلي من الفردية،
وهو ما تشجعه الثقافة الحديثة المتأثرة بالحداثة وما بعدها الواثقة في العقل
والعلم، التي ترى في الإنسان أنه مرجعية نفسه، وهنا نجد نمواً لفكرة غياب الروابط،
وهذا النمو يشجع الفردية، حيث تُفهم الحرية الشخصية على أنها غياب الروابط، ومن
بينها الجانب الاجتماعي الإصلاحي في الدين.
اقرأ
أيضاً:
الإلحاد في
الفكر العربي المعاصر