التربية القرآنية لقلب المسلم

عثمان الثويني

26 نوفمبر 2025

76

حين نتأمل التربية القرآنية نجد أننا أمام منهج لا يصنع المعرفة فقط، بل يصنع الإنسان، فالقرآن يتعامل مع القلب قبل أن يتعامل مع العقل، ويشكّل الوجدان قبل أن يوجّه السلوك، وكل آية فيه تنحت في النفس شيئًا من الوجل، وشيئًا من الحب، حتى يصبح القلب ممتلئًا بالله، خائفًا منه، مقبِلًا عليه، ثابتًا على الدرب.

فلسفة الوجل والحب في القرآن

الوجل الذي يزرعه القرآن ليس خوفًا يربك الحياة، ولا شعورًا يطفئ نور الروح، بل هو يقظة؛ يقظة تجعل الإنسان أكثر انتباهًا لمساره، وأكثر فهمًا لموقعه من الله، كما أن الحب الذي يسكبه القرآن في القلب ليس عاطفة عابرة، بل رابطة عميقة تُشعر المسلم بالقرب الإلهي الذي لا يفارقه، وبالرحمة التي تسبقه، وباللطف الذي يرافقه في كل خطوة.

وهذه المعادلة القرآنية العجيبة تجدها في كل سورة؛ وجلٌ يرفعك، وحبٌّ يحتويك.

التوازن بين العظمة والرحمة

القرآن يبدأ بفتح نافذة على عظمة الله، ليذكّر الإنسان بأن الدنيا ليست عبثًا، وأن الله فوق عباده قاهر، يعلم كل شيء، ويرى كل شيء، ويحاسب على كل شيء، وفي لحظة يشعر القلب بثقل المسؤولية، يأتي القرآن بآيات الرحمة ليُسكّن خوفه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف: 156)، (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 64)؛ فتكتمل التربية، ويستقر القلب بين مهابةٍ تدفع، ورحمةٍ تجذب.

وما أعظم أثر هذا التوازن في حياة المؤمن، فهو لا يخاف خوفًا يعطّل عقله، ولا يحب حبًا يُنسيه حدوده، بل يعيش واقفًا على قدميه، ثابتًا على طريقه، لا يفرّط في طاعة، ولا يستهين بمعصية، لأنه يعرف ربَّه حق المعرفة، وهنا سرّ التأثير؛ المعرفة بالله هي التي تبني القلب، وهي التي تجمع الوجل والحب في آنٍ واحد.

نماذج القلوب الحية في القرآن

وحين يعرض القرآن نماذجه الإيمانية الكبرى -إبراهيم، وموسى، وزكريا- فإنه يعرضها ليرينا قلوبًا حيّة، لا تغترّ بإيمانها، ولا تأمن مكر النفوس، قلوبٌ تدعو ربها سرًا، وتخافه، وتطمع فيه، وتطلب رضاه، وتستحي من تقصيرها، حتى وهي في أعلى مقامات الطاعة.

وهذه هي التربية التي يريدها القرآن للمؤمن؛ قلب يجاهد نفسه، ولا يغترّ، قلب يطلب الله كل يوم وكأنه يطلبه أول مرة.

العبرة من القصص القرآني

أما قصص القرآن، فهي الوجه الآخر لهذا المنهج؛ تعرض مصائر الأقوام، ونتائج الغفلة، وسنن الله في الظالمين، وفي المقابل، تظهر لطف الله بأوليائه، وستره عليهم، وفتحه أبواب النجاة في أحلك اللحظات، وهكذا يكتمل درس الوجل ودرس الحب معًا؛ وجلٌ يمنعك من الوقوع في طريقهم، وحبٌّ يدفعك لتسلك طريق الصالحين.

ثمرة التربية.. من المشاعر إلى السلوك

ولهذا يربط القرآن دائمًا بين الإيمان والعمل؛ لأن المشاعر وحدها لا تبني إنسانًا، الوجل إن لم يتحول إلى ترك معصية، والحب إن لم يتحول إلى طاعة، يصبحان مجرد انفعالات مؤقتة، أمّا حين يثمران فعلًا وسلوكًا وثباتًا، حينها يظهر أثر القرآن في حياة الإنسان كاملًا، وتظهر معاني الإحسان؛ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

وهكذا يربّي القرآن القلب ليكون قلبًا حيًا، حاضرًا، يعرف طريقه، ويعرف ربّه، ويعيش في ظلال الآيات بين جلالٍ يهابه، وجمالٍ يحبه، وبين خوفٍ يقوّمه، ورحمةٍ تحتويه.

هذا القلب هو غاية القرآن، وبه تُبنى الأمة، ويستقيم الإنسان، وتستنير الحياة.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة