التربية على «أستاذية العالم».. أين مكانها اليوم؟ وأين وصلت؟
كانت فكرة
أستاذية العالم يومًا ما عنوانًا لطموح أمةٍ ترى نفسها حاملةً لرسالةٍ سماوية تهدي
الإنسان إلى التوازن بين الروح والمادة، بين الحق والقوة، بين الإعمار والعبادة، لكن
هذا الطموح أخذ يتراجع في الوعي الجمعي حتى صار الحديث عنه عند بعض الناس نوعًا من
المبالغة أو الحلم القديم الذي لا يناسب العصر الحديث، وكأن الأمة الإسلامية قد
اكتفت بدور المتلقي بدل أن تكون الموجِّه، وبمقعد التابع بدل مقعد الشاهد على
الناس.
سلطة الإعلام وتشويه الوعي
لقد نجح الإعلام
العالمي في إعادة تشكيل صورة المسلم عن ذاته وعن أمته، وتحوّل المسلم في الخطاب
البصري والدرامي والإخباري إلى صورةٍ مشوشة؛ إما متطرف وإما ضعيف، وإما غارق في
ماضيه لا يدرك واقعه، فُرّغت مفاهيم مثل «الخلافة» و«الأستاذية» من محتواها
الإنساني، وأُلبست ثوب الإرهاب أو الوهم، وفي ظل هذا التشويه المستمر، تراجعت
الثقة بالنفس الجماعية، وتضاءلت الأحلام الكبيرة التي كانت تملأ قلوب الأجيال
يومًا ما.
آليات الغزو الفكري وتفتيت الحلم
لم يكن الغزو
الإعلامي مجرد بثٍّ للأخبار أو صناعةٍ للترفيه، بل كان مشروعًا متكاملًا لتوجيه
الوعي وسحب الطاقة الفكرية من الأمة، بدأ بضرب المفاهيم، ثم تسلل إلى اللغة والذوق
والعادات، حتى صارت الشعوب تتحدث بلسان غيرها، وتفكر بمعايير لا تشبهها، وتبحث عن
قيمتها في عيون الآخر لا في ميزان رسالتها، لقد تحوّل الإعلام إلى أداةٍ لتفتيت
الحلم، فكلما نهض جيل يتطلع إلى النهضة، صُوِّر له أن الواقع أقوى من الأحلام، وأن
العالمية حكرٌ على غيره، وهكذا حُجبت فكرة «الأستاذية» عن الميادين الكبرى، وغدت
في أحسن الأحوال مجرد ذكرى تربوية لا مشروعًا حضاريًا.
الإعلام الرسالي ومحاولات استعادة المعنى
ورغم هذا
التراجع، ما زال الإعلام الرسالي قائمًا في أطراف الساحة، يحاول أن يصنع وعيًا
بديلًا، وأن يزرع المعنى في زمنٍ يغلب عليه الضجيج، هو إعلامٌ نقيّ في رسالته،
لكنه ما زال بحاجة إلى أدوات عصرية ومؤسساتٍ متماسكة، تجمع بين الأصالة والمهنية،
وتفهم أن المعركة اليوم ليست معركة «محتوى» فحسب، بل معركة عقول ومخيال جمعي، ولعل
بشائر الصحوة الرقمية بين الشباب، وصعود الوعي الإنساني بالقضايا العادلة -مثل
فلسطين- تُشير إلى أن الموجة بدأت تعود، وإن بخطى بطيئة لكنها ثابتة.
الهزيمة النفسية.. الخوف من المصطلح والرسالة
يخاف البعض من
الحديث عن مفاهيم مثل الأستاذية والاستخلاف، وكأنها دعوات هيمنة أو استعلاء، وهذا
الخوف في حقيقته أحد آثار الهزيمة النفسية التي صنعتها عقود من التشويه، حتى صار
المسلم يخشى لغته ومصطلحاته التي تعبّر عن جوهر رسالته، الأستاذية ليست مشروع
سيطرة، بل مشروع رحمة وهداية وعدل، والاستخلاف ليس طموح حكمٍ دنيوي، بل مسؤولية
عمران وإصلاح وأداء للأمانة التي حمّلناها الله، إن تجاوز هذا الخوف هو الخطوة
الأولى لاستعادة الوعي، لأن الأمة التي تخشى لغتها ستخسر دورها، التي تتصالح مع
معانيها ستستعيد مكانتها.
جوهر الرسالة باقٍ.. التربية أولاً
لقد تغيّر شكل
العالم، لكن جوهر الرسالة لم يتغير، وما دامت هناك مدرسة ومسجد وبيت يزرع في الجيل
معنى المسؤولية والرحمة والإتقان، فستظل أمة محمد صلى الله عليه وسلم قادرة على أن
تربي للعالم أساتذته، وتذكّره بأن الإنسانية لا تُدار بالقوة وحدها، بل بالقيم
أيضًا.