التسريبات.. والتطبيع مع القبح!

أسامة الهتيمي

12 نوفمبر 2025

331

بين الحين والآخر تطفو على السطح تسريبات جديدة في شكل مقاطع فيديو إباحية وصور أو وثائق سرية تتعلق بشخصيات عامة لها حيثيتها في المجتمع، سواء كان هؤلاء من المشاهير أو الإعلاميين أو السياسيين أو حتى من المسؤولين في المواقع التنفيذية، وهي التسريبات التي تحمل في طياتها ما يعد مخالفات قانونية أو أخلاقية جسيمة تمسّ سمعتهم ومكانتهم.

وغالباً ما تكون هذه التسريبات أداة تستخدم لتشويه السمعة أو لتصفية الحسابات سواء من قبل خصوم سياسيين أو منافسين مهنيين أو حتى من أطراف هدفها إثارة الجدل ولفت الانتباه أو لتحقيق مكاسب مادية عبر المشاهدة الأعلى أو الابتزاز.

التسريبات والمجتمع

ربما لا تعد التسريبات ظاهرة حديثة، فقد شهد العالم كله هذه الظاهرة في فترات زمنية مختلفة، لكنها ومع التطور الهائل في ثورة الاتصالات والإنترنت أصبحت أحد أبرز مظاهر التحول في المشهد الإعلامي والاجتماعي المعاصر.

فمع تلك التطورات، بات بإمكان أي فرد يمتلك هاتفًا ذكيًا أن يتحول إلى مصدر للمعلومة أو أداة لكشف الأسرار التي كانت في السابق حكراً على الصحفيين أو أجهزة الاستخبارات، فجعلت التقنيات عملية التسريب أسهل وأكثر تأثيرًا، كما أضعفت قدرة المؤسسات على التحكم في تدفق المعلومات.

ولعل مما يزيد من خطورتها أيضاً صعوبة التحقق من صحتها وسرعة انتشارها ما يجعلها أداة فعالة في تشكيل الرأي العام وصناعة الأحداث في لحظة زمنية قصيرة، وهو ما لم يكن ممكنًا في أي عصر سابق.

والتسريبات تعني في جوهرها إفشاء أو نشر معلومات خاصة أو سرية لم يكن من المفترض أن تُعلن للناس، سواء كانت معلومات شخصية أو مؤسسية أو سياسية أو أمنية بعد الحصول عليها بطرق غير مشروعة كالتجسس أو الاختراق الإلكتروني.

وعلى الرغم من أن هذه التسريبات تبدو وكأنها وسيلة لكشف حقائق خفية أو فضح لسلوكيات غير أخلاقية لأناس ما كان ينبغي لهم التورط في مثل ذلك، فإنها في الواقع تلقي بظلال كثيفة على المجتمع كله، فيكون لها أثرها في السلوك المجتمعي برمته.

لم تعد التسريبات مجرد حدث إعلامي عابر، وإنما أضحت ظاهرة اجتماعية خطيرة تعيد تشكيل وعي الأفراد بطريقة تجعل من الانكشاف والفضيحة جزءاً من المشهد اليومي.

التبلد القيمي

تأتي الآثار الأخلاقية لهذه التسريبات كأحد أهم الانعكاسات على المنظومة القيمية للمجتمع فتهددها، بل وتعمل على هدمها من الأساس، إذ ليس سهلاً أن يستيقظ المجتمع مع صباح كل يوم على فضيحة جديدة يطالعها بتفاصيلها الكاملة التي تتجاوز بالطبع في غالب الأحيان حدود الحلال والحرام التي تعارف عليها المجتمع وارتضاها والتزم بها.

كذلك، فإن هذه المطالعة المتكررة لمثل تلك التسريبات ليست كفيلة بأن تعمل على تآكل مفاهيم قيمتي الحياء وستر العورات اللتين حرص الإسلام على أن نلتزم بهما فحسب، ولكنها وبكل أسف تدفع البعض من ضعاف النفوس للتعاطي معها باعتبارها أمراً عادياً فيتقبلونها دون رفض أو حتى إبداء الاستياء، بل ويعملون على الترويج لها مما يصيب هذه الشريحة المجتمعية مع مرور الوقت بالتبلد القيمي أو التطبيع مع القبح الأخلاقي.

أيضاً، ومع حالة التراخي أو عدم ثبوت الأدلة أو ربما لأسباب أخرى أدت في النهاية إلى عدم محاسبة مرتكبي ما احتوته التسريبات، تستسهل بعض الطبقات المجتمعية ارتكاب نفس هذه الجرائم، الأمر الذي يتناقض مع الهدف من نشرها في حال افترضنا حسن نية من قام بنشرها، وأنهم يستهدفون فضح المخالفين والتحذير من التورط في مثل جرائمهم.

وتشجع ظاهرة التسريبات وما يترتب عليها من فضح وانكشاف على تنامي ظاهرة أخرى هي التقليد، ومن ثم انتهاج نفس الفعل، فتتسع دائرة الانحراف الخلقي، فيما أنها تولد لدى البعض شعوراً بالمهانة والعار، وخوفاً داخلياً من الفضيحة؛ ما يقيّد حرية السلوك النزيه ويغذّي النفاق الاجتماعي.

وبالطبع، ليس مستغرباً أن تسفر مثل هذه الأجواء عن تشويه القدوات وانهيار النماذج الصالحة بعد أن يستغل الفاسدون والمفسدون الأخطاء الفردية في هدم صورة الفضيلة بأكملها وتعميم الاتهامات لتشمل حتى البعيدين عن كل شبهة ليكون هؤلاء ممن ينطبق عليهم قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19)؛ إذ الآية صريحة في تبيان حرمة نشر الفواحش والأخبار السيئة عن المؤمنين سواء كانت صحيحة أو إشاعة، وسواء كانت بهدف التشهير أو بدعوى كشف الحقيقة.

هنا تكون النتيجة الحتمية أن تحدث حالة من السيولة الأخلاقية، فلا قدوة أو نموذج، بل حالة من التشكك الافتراضي في الجميع، فتصبح التعليمات أو التوجيهات مجرد «أكليشيهات» لا تجد صدى حقيقياً لدى المتلقين في أي مكان وعبر أي وسيلة.

انعكاسات سلبية

لا تقتصر خطورة الأثر السلبي لهذه التسريبات على السلوكيات والأخلاقيات الخاصة، ولكنها تمتد لما هو أبعد من ذلك، حيث العلاقات الاجتماعية التي تصبح محكومة بدوافع الانتقام والترصد، فحين تنتشر التسريبات يعيش الناس في حالة ريبة وخوف من أن يتم نشر أسرارهم أو يتم استغلالها ضدهم، فتضعف الثقة بين الأصدقاء والأزواج وزملاء العمل، وحتى بين المواطن ومؤسسات الدولة، ليصبح الناس أكثر تحفظاً في التعبير عن آرائهم أو علاقاتهم خوفاً من التسجيل أو التسريب.

ولأن الكثير مما ينشر أصلاً ليس له مصدر معلوم وموثوق، أو ربما يخضع في أحيان كثيرة للفبركة والتزوير، يصبح للشائعة دور كبير في التحكم في توجيه الرأي العام، فتحدث الفوضى والبلبلة المجتمعية بعد أن يفقد الكثيرون القدرة على التمييز بين ما هو صواب وما هو مجرد شائعة، ما يؤدي إلى اضطراب في الوعي الجمعي ويخنق حرية التواصل والتعبير.

كما تلقي التسريبات بظلالها على العلاقات الأسرية، فهي تنال من الأعراض أو من السمعة الشخصية للأفراد الذين يكونون في الغالب مسؤولين عن أسر فتقع المشكلات الاجتماعية والنفسية فيتهدم بنيان هذه الأسر.

أما إذا كانت هذه التسريبات تتعلق بصراع سياسي أو فكري، فإنها تصبح سلاحاً لتأجيج الخلافات ومشاعر الكراهية وتجذير الانقسام والاستقطاب بين المختلفين وأنصارهم، لتتحول هذه الخلافات السياسية والفكرية إلى صراعات شخصية تدفع كل طرف لبذل ما في وسعه للانتقام واحتقار الطرف الآخر.

وعند البعض ممن لا يلتفتون للمعيار القيمي والأخلاقي، تصبح التسريبات مادة للربح أو الشهرة ووسيلة للكسب المادي حتى ولو كان ذلك على حساب سمعة الآخرين، وهو ما يساهم في فقدان الإحساس بالانتماء والولاء لدى قطاعات شعبية ليحل مكانها الشعور باللامبالاة أو الشك الدائم.

على أي حال، لا يعني ما سبق رفض مبدأ التسريبات في المطلق، فأحياناً ما تكون وسيلة ناجعة تردع الفاسدين والمفسدين عن الاستمرار في غيهم خشية الفضح والانكشاف، وعليه فإنه يجب مراعاة الالتزام بالحفاظ على المعيار الأخلاقي فلا تكون دوافعها مجرد رغبة في الإثارة أو تحقيق الانتقام أو التكسب وما شابه ذلك من أهداف أخرى، إذ كما تعبدنا لله عز وجل بالغايات فقد تعبدنا بالوسائل.


اقرأ أيضاً:

تسريبات المدينة المنورة.. المشهد الأخطر!

التسريبات الإباحية.. الآثار وطرق المواجهة

قراءة الغزالي في فضيحة «إبستاين»

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة