التشجير الكويتي.. استدامة بيئية تدر أرباحاً اقتصادية

تواجه الكويت تحديات بيئية جسيمة تفرض علينا إعادة النظر في مفهوم التشجير،
ففي بلد تصل فيه درجات الحرارة صيفاً إلى 50°م، وتسقط فيه أمطار لا تتجاوز 120 ملم
سنوياً، لم يعد التشجير مجرد مسألة بيئية ثانوية، بل تحول إلى ضرورة إستراتيجية
حيوية ترتبط مباشرة بالأمن المائي والغذائي، وجودة الحياة التي ينشدها الجميع(1).
وهنا يبرز الجانب الديني، فيتجلى في الحديث النبوي الشريف دلالة عميقة
تُظهر أهمية الزراعة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «إن قامتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكم فسيلةٌ، فإن استطاعَ أن لا تقومَ
حتَّى يغرِسَها فليغرِسْها»(2)، فهو لا يبرز فقط المكانة السامية
للزراعة في الإسلام، بل يقدم رسالة خالدة، فحواها: أن العطاء والبناء واجب علينا
حتى في أحلك الظروف وأصعب اللحظات وأشدها رهبة، هذه الروح نفسها هي ما نحتاجها
اليوم لمواجهة التحديات البيئية التي تعصف بنا.
إن التشجير في البيئات الصحراوية يمكن أن يحقق عوائد اقتصادية معتبرة(3)،
كمشروع تشجير صباح الأحمد بتكلفة 28.5 مليون دينار (طبقًا لـ«وكالة الأنباء
الكويتية») وعوائدها المباشرة المتمثلة في فرص العمل، وتوفير الطاقة، وهذا ما يجعل
التشجير في الكويت ليس مجرد مشروع بيئي، وإنما استثمار اقتصادي واعد بشرط التخطيط
العلمي والتنفيذ المستدام.
الواقع البيئي في الكويت بين التحديات والفرص
1- التحديات البيئية الراهنة:
تعاني الكويت من مجموعة متشابكة من التحديات البيئية التي تجعل من التشجير
حلاً إستراتيجياً، منها:
- ندرة المياه: حيث يبلغ استهلاك المياه للري حوالي 300 مليون جالون
يومياً، في بلد يعتمد بشكل كبير على تحلية المياه(4)، وارتفاع درجات
الحرارة: مع تأثيرات الارتفاع الحراري في التجمعات العمرانية التي تزيد من استهلاك
الطاقة للتبريد، والتصحر: حيث تتعرض التربة للتدهور والانجراف بفعل الرياح
والعواصف الرملية، والملوحة العالية: في كل من التربة والمياه الجوفية؛ ما يحد من
خيارات التشجير.
2- المؤشرات البيئية الصادمة:
إن المساحات الخضراء في الكويت لا تتجاوز 3% من إجمالي مساحة البلاد، وهي
نسبة متدنية مقارنة بالمعدلات العالمية، كما أن الكويت تحتل مرتبة متقدمة عالمياً
في استهلاك المياه للفرد، حيث يبلغ حوالي 100 جالون إمبراطوري يومياً؛ ما يشكل
ضغطاً كبيراً على الموارد المائية الشحيحة أصلاً(5)، كما تم خفض
ميزانية الزراعة التجميلية بنسبة 60%(6)، وهو عامل مهم قد يعيق تحقيق
الرؤية المستقبلية
الجدوى الاقتصادية للتشجير
أولاً: العوائد الاقتصادية المباشرة:
يمكن للتشجير في الكويت أن يحقق عوائد اقتصادية كبيرة عبر عدة مسارات، مثل:
1- المنتجات الشجرية: كالتمور من أشجار النخيل التي تتحمل الملوحة، أو ثمار
التين الشوكي التي تصلح للتسويق، أو أشجار الآراك المستخدمة في السواك.
2- الطاقة الحيوية: من خلال أشجار مثل الجاتروفا التي تنتج بذوراً لصناعة
الوقود الحيوي.
3- السياحة البيئية: عبر إنشاء واحات خضراء وجذب السياح، كما في نموذج «الغابة
الصحراوية» بالإمارات.
4- توفير الطاقة: حيث تخفض الأشجار درجات الحرارة المحيطة 2-8°م تقريبًا؛ ما
يقلل فواتير التبريد.
ثانيًا: النماذج الناجحة محلياً:
برزت في الكويت بعض النماذج الواعدة التي تثبت جدوى التشجير اقتصادياً:
1- مشروع غابة الصليبية: ساهم في خفض استهلاك الطاقة بنسبة 20% في المناطق
المحيطة، ووفر العديد من فرص العمل(7).
2- حديقة الشهيد: بمساحة خضراء تبلغ حوالي 230.000 م²، أدت إلى زيادة قيمة
العقارات المجاورة بنسبة 30%.
أنواع الأشجار المناسبة.. بين الأصالة والابتكار
أولًا: الأشجار المحلية المتأقلمة:
تمتلك الكويت تراثاً نباتياً فريداً من الأشجار التي تكيفت مع الظروف
القاسية عبر القرون، ومن أبرزها:
1- الغاف: تستهلك ماءً أقل بحوالي 40% من غيرها، وتثبت التربة وتوفر ظلاً
وافراً.
2- المرخ: مثالية لتثبيت الكثبان الرملية والوقاية من التصحر.
3- الأرطى: تتحمل الملوحة العالية ويمكن استخدامها كوقود أو علف.
ثانيًا: الأشجار المستقدمة المختارة:
بالإضافة للأشجار المحلية، يمكن الاستفادة من أنواع مستقدمة أثبتت نجاحها
في البيئات المشابهة:
1- النيم: مقاوم للآفات ويوفر ظلاً كثيفاً.
2- الأكاسيا بأنواعها: السمر منها تستخدم لتثبيت التربة، والسنط المصري
تزرع كأشجار ظل أو للزينة، أما الطلح فسريع النمو ويصلح كمصدات للرياح.
3- الكاتورفا: لإنتاج الوقود الحيوي من أراضٍ فقيرة.
4- الآراك: تمتص الملوحة ولها استخدامات طبية وتقليدية.
الحلول المبتكرة للتغلب على التحديات
أولًا: إدارة الموارد المائية، في بلد يعاني من شح المياه، تبرز الحلول
التالية:
1- الري بالتنقيط باستخدام المياه المعالجة: لترشيد الاستهلاك.
2- الري باستخدام الذكاء الاصطناعي: لتحقيق الاستدامة الزراعية وحماية
الموارد المائية.
3- أجهزة استشعار رطوبة التربة: للري الذكي حسب الحاجة الفعلية.
4- الزراعة المائية: وتصلح في المناطق الحضرية لترشيد المياه.
ثانيًا: تحسين التربة: وذلك عن طريق التغطية، للحفاظ على رطوبة التربة
والتقليل من التبخر، وإضافة الكمبوست، لتحسين خصوبة التربة الرملية، وزراعة
الأحزمة الخضراء الشجرية، التي تعمل كمصدات طبيعية ضد العواصف الرملية.
الرؤية المستقبلية.. توصيات إستراتيجية مقترحة
لتحقيق قفزة نوعية في التشجير بالكويت، تُقْتَرح الإجراءات التالية:
1- إنشاء صندوق وطني للتشجير: برأسمال أولي 20 مليون دينار كويتي لتمويل
المشاريع الابتكارية.
2- اعتماد تقنيات الزراعة العمودية: في المناطق الحضرية لتعظيم المساحات
الخضراء.
3- تطوير تشريعات محفزة: للقطاع الخاص للاستثمار في التشجير.
4- إطلاق حملات توعية: لتعزيز المشاركة المجتمعية في المبادرات الخضراء.
5- الشراكات بين القطاعين العام والخاص: عبر نماذج مثل (BOT) البناء، التشغيل، التحويل.
نحو كويت خضراء مستدامة
التشجير في الكويت ليس ترفاً بيئياً، وإنما استثمار ذكي يحقق أرباحاً مالية
وصحية واجتماعية، مع التخطيط العلمي والاستفادة من التقنيات الحديثة، يمكن تحويل
15% من مساحة الكويت إلى مناطق خضراء بحلول عام 2035م؛ ما يسهم في:
1- خفض درجات الحرارة 3-5 درجات في المناطق الحضرية.
2- توفير ما يربو على 30 مليون دينار كويتي سنوياً من فواتير الطاقة.
3- خلق حوالي 5 آلاف فرصة عمل جديدة.
هذه الرؤية الطموحة تتطلب تضافر جهود جميع الجهات المعنية (الحكومة، القطاع
الخاص، المجتمع المدني) لتحويل التحديات البيئية إلى فرص اقتصادية، والاستفادة
المثلى من الموارد المتاحة لبناء مستقبل أكثر اخضراراً وازدهاراً للكويت.
____________________
(1) الهيئة العامة للزراعة والثروة السمكية، تقرير المساحات الخضراء، 2023.
(2) رواه أحمد في المسند (12981) بلفظ «فسيلة»، وصححه الألباني في السلسلة
الصحيحة (9)، وقال: إسناده على شرط مسلم.
(3) منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، دراسة جدوى التشجير في
المناطق الجافة.
(4) وزارة الكهرباء والماء، إحصاءات استهلاك المياه.
(5) فهد الظفيري، تحديات إدارة المياه في الكويت، الجريدة، 31/7/2022. https://bit.ly/4dxheiy.
(6) محمد جاسم، خفض ميزانية مشاريع الزراعة يعيق التخضير، الجريدة،
13/10/2020. https://bit.ly/4kfTGl0.
(7) منظمة الفاو، تقرير حالة الغابات في العالم 2022. http://bit.ly/3SmqFaT.