التطبيع مع المنكرات.. كيف يموت القلب ويسقط الأمر بالمعروف؟

عثمان الثويني

30 سبتمبر 2025

122

في بداية الأمر، لم يكن المنكر مقبولًا عند الناس، كانوا يرونه دخيلًا على حياتهم ومخالفًا لما تعودوا عليه من الفطرة والإيمان، فتنقبض له القلوب وتنكره الألسنة وتنفر منه الفطرة السليمة، لكن مع مرور الوقت، وبتكرار المشهد، وبكثرة المبررات، وبضغط الواقع الاجتماعي والإعلامي، يصبح للمنكر حضور عادي في البيت والشارع والمؤسسات، حتى يتسلل إلى النفس الفردية فلا يعود يثير دهشة أو يوقظ ضميرًا، وهنا تبدأ أخطر المراحل؛ مرحلة الألفة مع المنكر، حين يفقد الإنسان حرارة الرفض الداخلي، فيسكن قلبه صمت قاتل لا يعرف الإنكار.

الألفة مع المنكر.. عملية التطبيع التدريجية

هذه الألفة ليست مجرد حالة شعورية عابرة، بل هي عملية تطبيع تدريجية مع الشر والانحراف، يشارك فيها الإعلام الموجّه، والثقافة المتساهلة، والبيئة الاجتماعية المتأثرة، بل أحيانًا الأسرة ذاتها، حين يرى الطفل في بيته تجاوزًا فلا يُعلَّم أنه خطأ، وحين يشاهد الشاب في مجتمعه مظاهر الفساد دون أن يجد من يصححها، تتراكم عنده قناعة باطلة أن هذه الممارسات عادية وطبيعية، وأنها لا تستحق الوقوف عندها، فينمو جيلٌ لا ينكر المنكر لأنه لم يتربَّ على حساسيته، بل قد يستغرب ممن ينكره أو يعدّه متشددًا.

أسباب ضعف الإيمان واعتياد الباطل

تتجذر المشكلة في ضعف الإيمان أولًا، إذ إن القلب الحي يأنس بالمعروف ويشمئز من المنكر، فإذا ضعف الإيمان دبّ فيه البلاء الأعظم؛ اعتياد الباطل، ويعزز هذا الضعف عوامل أخرى؛ منها ضغط العادات الاجتماعية التي تجعل الحرام مقبولًا إذا عمّت به البلوى، ومنها سطوة الإعلام الذي يصنع قدوات مزيفة، ويعيد تشكيل الذوق العام حتى يربط بين الانحراف والنجاح أو الجاذبية أو الحرية، ومن العوامل كذلك ضعف التربية الأسرية، حين يُغفل الوالدان دور التنبيه على الخطأ، فينشأ الأبناء على التكيف مع أي صورة دون غربلة قيمية، ولا ننسى أثر العولمة التي تذيب الخصوصيات وتفرض نمطًا واحدًا من الحياة يجعل المنكرات متاحة وسهلة، حتى لا تكاد تجد مساحة خالية من الدعوة إليها.

أخطر الآثار.. سقوط فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إن أخطر آثار هذه الألفة أنها تصيب شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مقتل، إذ تنزع من الناس روح المبادرة للإنكار، فيصير المعروف غريبًا والمنكر مقبولًا، وتفقد الأمة بذلك صفتها التي ميّزها الله بها: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، فإذا غابت هذه الخصيصة، تآكلت الهوية الإيمانية وفقد المجتمع حصانته الداخلية، فلا ينكر الناس ولا يتناهون عن باطل، فيحل بهم العقاب العام كما ورد في النصوص.

خطة إحياء القلب والتربية الواعية

والحل يبدأ أولًا من إعادة إحياء القلب بالإيمان، فإن القلب الحي هو جهاز الإنذار الذي يمنع الانزلاق في مستنقع الألفة، ثم من التربية الواعية التي تغرس في الأبناء منذ الصغر الحياء من المعصية والغيرة على المعروف، ويحتاج المجتمع كذلك إلى إعلام مسؤول يوازن الكفة ويعيد الاعتبار للقيم الأصيلة بدلًا من تسويق الانحراف.

كما يحتاج إلى أصوات صادقة في كل بيت ومدرسة ومسجد تذكّر بخطورة التطبيع مع المنكرات، وتعيد إحياء فريضة الإنكار بالأسلوب الحكيم والرفق الذي لا يثير النفور، بل يفتح الأبواب للتوبة والرجوع، فإذا اجتمعت هذه العوامل، عاد المنكر إلى مكانه الطبيعي غريبًا مستنكرًا، وعاد المعروف إلى مكانته عزيزًا حاضرًا.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة