التفريق بين الرأي الشرعي والرأي السياسي.. بين الثوابت الدينية والاجتهادات البشرية

كاتب
المدونة: عبدالله العتيبي
في كثير من
الأحيان، يُطرح تساؤل حول كيفية التفريق بين الفتوى الشرعية والرأي السياسي،
خصوصًا عندما تصدر آراء سياسية من شخصيات دينية، فالبعض قد يخلط بين الاثنين، فيظن
أن كل ما يصدر عن عالم شرعي هو حكم ديني ملزم، بينما في الواقع قد يكون مجرد
اجتهاد سياسي قابل للنقاش، ولعل من أعظم الشواهد التاريخية التي توضح التفريق بين
الحكم الشرعي والرأي القابل للنقاش ما حدث في غزوة «بدر»، عندما اختار النبي صلى
الله عليه وسلم موضع الجيش، فتدخل أحد الصحابة وسأله إن كان هذا الاختيار وحيًا أم
اجتهادًا بشريًا.
غزوة
«بدر».. حينما ميّز الصحابة بين الوحي والاجتهاد البشري
عندما وصل النبي
صلى الله عليه وسلم بجيشه إلى «بدر»، اختار موقعًا لمعسكر المسلمين، فقام الصحابي
الحُباب بن المنذر رضي الله عنه، وهو صاحب خبرة في الأمور العسكرية، بسؤال النبي صلى
الله عليه وسلم: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله فليس لنا أن
نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
فأجاب النبي صلى
الله عليه وسلم بأنه اجتهاد منه، وليس وحيًا.
وهنا قال الحباب
بن المنذر: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، انطلق بنا إلى أدنى ماء من القوم
فننزله، ثم نغور ما وراءه من القُلُب (الآبار)، ثم نبني عليه حوضًا فنملأه ماء، ثم
نقاتل القوم ونحن نشرب وهم لا يشربون.
فأخذ النبي صلى
الله عليه وسلم برأيه ونفذ خطته العسكرية، وكانت هذه الإستراتيجية أحد أسباب النصر
في «بدر».
الدلالة
على أهمية التفريق بين الحكم الشرعي والرأي السياسي
هذه القصة تعكس
مبدأً جوهريًا: ليس كل ما يصدر عن شخصية دينية هو وحي أو حكم شرعي ملزم، فالنبي صلى
الله عليه وسلم، وهو المؤيد بالوحي، لم يخلط بين ما هو شرع منزّل وما هو اجتهاد
بشري، بل قبل المشورة في أمور الحرب والسياسة.
لو كان اختيار
موقع الجيش وحيًا من الله، لما كان هناك مجال للاجتهاد أو النقاش، ولكن لأنه
اجتهاد بشري، كان منفتحًا على التغيير بناءً على رأي خبير في الحرب.
تطبيق
القصة على الواقع المعاصر
كما أن النبي صلى
الله عليه وسلم ميّز بين ما هو وحي وما هو اجتهاد في أمور الحرب، ينبغي اليوم
التمييز بين:
- الحكم الشرعي
الثابت الذي يستند إلى نصوص قطعية في القرآن والسُّنة.
- الرأي السياسي
القابل للاجتهاد، والذي يخضع لتحليل المصالح والمفاسد، ويختلف بين العلماء
والسياسيين.
كيف
نستفيد من هذا الفهم؟
1- عدم اعتبار
كل رأي يصدر من عالم ديني على أنه فتوى شرعية ملزمة، فقد يكون مجرد تحليل سياسي.
2- التفريق بين
المسائل الدينية التي لا تقبل الاجتهاد، مثل تحريم الربا، والقضايا السياسية
القابلة للاجتهاد، مثل الموقف من الحكومات والجماعات.
3- اتباع نهج
الصحابة في السؤال والتدقيق، كما فعل الحباب بن المنذر عندما سأل النبي صلى الله
عليه وسلم، حتى لا تختلط الأمور على الناس.
4- إدراك أن
السياسة متغيرة ومبنية على المصالح، بينما الأحكام الشرعية مبنية على النصوص
الشرعية الثابتة.
قصة غزوة «بدر»
تقدم لنا درسًا عظيمًا في التفريق بين ما هو ديني ثابت وما هو اجتهاد بشري قابل
للنقاش، كما أن الصحابة ميّزوا بين ما هو وحي وما هو تدبير سياسي، يجب علينا اليوم
أن نميز بين الأحكام الشرعية والآراء السياسية، حتى لا يُستغل الدين في توجيه
المواقف السياسية، أو تُعطى الآراء السياسية صبغة دينية تجعلها فوق النقد والاختلاف.