التواضع عن رفعة والإنصاف عن قوة

قال عبدالملك بن مروان: «أفضل الناس من
عفا وتواضع عن رفعة، وأنصف عن قوة» (الإعجاز والإيجاز).
بيان وفوائد
العبارة مبنية على أسلوب «الطباق»
(المقابلة بين الأضداد)، الذي يُظهر عظمة الفعل الأخلاقي من خلال تناقضه مع الدافع
البشري الطبيعي.
- «عَفَا» يقابله في المعنى الحق في الانتقام
(وهو مظهر من مظاهر الرفعة والقوة).
- «تَوَاضَعَ» يقابله في المعنى التكبر
(وهو نتيجة طبيعية للرفعة والمكانة).
- «أَنْصَفَ» يقابله في المعنى الاستغلال
والجور (وهما متاحان بسبب القوة).
والعبارة تمتاز بالإيجاز والعمق، فهي
تستخدم أفعالاً مختصرة لتشير إلى سلوكيات كاملة ومعقدة؛ ما يدل على بلاغة القائل.
والصياغة حِكَمِيَّة؛ ما يمنحها طابعاً
خالداً وسهولة للحفظ والاستدلال.
التحليل الفكري والأخلاقي
تقوم العبارة على ثلاثة أركان رئيسة
تُعرِّف الأفضلية الإنسانية ليس بالمنصب أو الثروة، بل بالسلوك الأخلاقي في لحظات
الاختبار الحقيقية.
الركن الأول: العفو عند المقدرة: الأفضلية
هنا ليست في مطلق العفو، بل في العفو حين تكون في موقف قوة يسمح لك بالانتقام أو
المعاقبة، فالأخلاق الحقيقية تظهر عندما يكون لديك الخيار بين أن تعفو أو تعاقب
فتختار العفو.
وهذا الأمر يمثل اختبارًا للنفس وقدرتها
على كبح جماح الغضب والرغبة في الانتقام، والأفضلية تكمن في تحويل الطاقة السلبية
للغضب إلى فعل إيجابي هو الصفح والتسامح.
الركن الثاني: التواضع مع الرفعة: الأفضلية
ليست في التواضع لأنك مجبر عليه، بل في التواضع رغم امتلاكك للمكانة والحسب
والمنصب (الرفعة)، كثير من الناس يتواضعون لأنهم في موقع ضعف، ولكن التواضع
الحقيقي هو الذي يصدر عن شخص قوي ومرموق.
وهذا السلوك يمثل اختبارًا للعلاقة مع
الذات ومع الآخرين، فهو يقاوم دوافع الكبرياء والعجب بالنفس التي تأتي مع النجاح
والمركز الاجتماعي، والتواضع هنا دليل على قوة الشخصية وثقتها الداخلية التي لا
تحتاج إلى التباهي.
الركن الثالث: الإنصاف مع القوة: وهذا
الخلق يمثل أعلى مراتب الأخلاق؛ فالعدل (الإنصاف) يكون سهلاً عندما تكون ضعيفاً أو
عندما يتوافق مع مصلحتك، ولكن الإنصاف الحقيقي هو أن تُنْصِفَ الآخرين رغم أنك
تملك القوة (المادية، أو الاجتماعية، أو القانونية) التي تسمح لك بالجور والظلم
لتحقيق منفعة شخصية دون أن يحاسِبك أحد.
وهذا يمثل اختبارًا للنزاهة والمبدأ، هل
تظل ملتزماً بالعدل عندما تكون كفة القوة راجحة لصالحك؟ هذا الركن هو أساس الحكم
الرشيد والقيادة الأخلاقية.
ولا تعمل هذه الأركان بمعزل عن بعضها، بل
هي متكاملة: فالعفو يتعلق بعلاقة الإنسان مع من أساء إليه، والتواضع يتعلق بعلاقة
الإنسان مع نفسه ومع عامة الناس، والإنصاف يتعلق بعلاقة الإنسان مع نظام الحكم
والقيم والمبادئ.
والرسالة الشاملة للعبارة هي أن الأفضلية
الحقيقية للإنسان لا تُقاس بما يملك من قوة أو مكانة، بل تُقاس بقدرته على استخدام
هذه القوة والمكانة في فعل الخير وترجيح كفة المبادئ الأخلاقية على المصالح
الشخصية والغرائز الطبيعية.