الحب في غزة.. ملاذ الأبرياء

علي عبد الجواد

29 يناير 2025

6104

في غمرة الحروب وصخب النزاعات، حيث يتبدد صوت الحياة بين أزيز الرصاص وصرخات الفقد، يبقى الحب القوة الإنسانية الخفية، التي تعيد صياغة المشهد في قلب الكارثة، فهو في هذا السياق لا يقتصر على المعنى العاطفي الضيق، بل يتسع ليشمل كل أشكال التعلق بالحياة والأمل والآخرين.

ويظل الحب الشعور العميق الذي يتسلل إلى النفوس رغم قسوة الظروف، ليضيء ظلمات اليأس، ويعين الإنسان على استعادة توازنه النفسي والاجتماعي وسط الدمار والحروب.

ملاذ نفسي

ويتخذ الحب في النزاعات والصراعات طابعًا مختلفًا؛ فهو لا ينفصل عن الحاجة الماسة للتماسك والبقاء، كونه الملاذ المعنوي الذي يعيد تشكيل الروابط بين البشر عندما يفقد الأمان، والدرع النفسي الذي يخفف من وطأة الخسائر المادية والمعنوية التي تخلفها تلك الصراعات، بوصفه قوة استثنائية قادرة على مواجهة التشظي النفسي والاجتماعي الناتج عن الحروب.

ويكمن سر أهمية الحب في أنه يعيد للإنسان قدرته على الحلم والابتسام في أصعب اللحظات، ويساعد على خلق فضاء داخلي يوازن بين الواقع القاسي ومتطلبات الروح.

وبهذا المعنى، لا ينظر إلى الحب كمجرد عاطفة فردية، بل كوسيلة جماعية لمقاومة آثار الحرب، حيث تعمل الروابط الإنسانية على التخفيف من عزلة الأفراد وتزويدهم بالقوة للتغلب على المشكلات.

وفي هذا الشأن، تشير دراسات مثل تلك التي أجرتها «منظمة الصحة العالمية» (WHO) حول الصحة النفسية في مناطق النزاعات، إلى أن العلاقات العاطفية القوية بين الأفراد تسهم بشكل كبير في تخفيف اضطرابات ما بعد الصدمة، وتعزز الشعور بالطمأنينة والانتماء. 

ومن هنا، فالحب في الحروب لا يتعلق فقط بتخفيف المعاناة النفسية، بل يساهم في استعادة توازن المجتمعات نفسها، كونه محركًا للتضامن والتآزر، وضرورة إنسانية وأداة فعالة لتحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي في زمن الاضطرابات.

قوة في أحلك الظروف

وفي الأدب العربي، تتجلى العلاقة بين الحب والحرب في العديد من المقولات والكتابات التي تعكس تداخل المشاعر الإنسانية مع واقع الصراعات، إذ يشير عالم اللسانيات الشهير ابن جني إلى أنه إذا كانت الألفاظ المتقاربة في لغة الضاد تحمل دلالات متقاربة، فـإن «العلاقة بين الحب والحرب المفصولين بحرف الراء، لم تكن مسألة عائدة إلى الصدفة المجردة وحدها، بل إلى ما يؤشر إليه الجناس الناقص بين المفردتين، من تشابك في الدلالة والمعنى، بحيث تبدو كل منهما امتداداً للأخرى، أو توأمها المضمر». 

وفي سياق آخر، يشير مقال في «الجزيرة نت» إلى رسالة حب نجت من بطش الحرب، حيث يعبر الكاتب عن مشاعر الحب في ظل الحروب والصراعات، قائلاً: «بعدَ أن أعدمتُ كبريائي على بابِ عينيك، لمّا رأيتُ كمَّ الخوفِ فيهما عندما جئتَ هلعاً تبحثُ عنّي، وأنا أحزمُ حقائبَ قلقي وتعلُّقي لأرحل لمكانٍ يخلو منك، فأدركتُ يومها أنك قدري، ولا ملجأ لي منك إلا إليك..».

ولا شك أن ما تقدم ذكره، يوضح لنا كيف أن الحب يمكن أن يكون قوة تجمع بين البشر حتى في أحلك الأوقات، وأيضًا دافعًا للصمود والأمل في وجه الصراعات والحروب.

مفهوم إنساني مقاوم

وفي الحروب والنزاعات، يظهر الحب بأشكال متعددة تسهم في بناء الصمود النفسي، فعندما يشعر الإنسان بأنه محبوب ومقدر، تزداد لديه الثقة بقدرته على مواجهة التحديات، وتترسخ في داخله قناعة بأن الحياة تستحق المحاولة رغم كل ما يحيط بها من مآسٍ.

وأهمية الحب لا تنحصر في العلاقات الشخصية، بل تمتد إلى مشاعر التضامن الجماعي التي تجمع المجتمعات الممزقة، فالشعور بالانتماء لمجموعة تحركها قيم الحب والمساندة يعزز مناعة الأفراد النفسية ويمنحهم دافعًا للاستمرار.

وفي مواجهة الدمار، يكون الحب رسالة صامتة تقول: إن الإنسان أقوى من الحرب، وإن الروابط الإنسانية تستطيع أن تبني ما عجزت عن هدمه قذائف الموت.

وقد أظهرت تقارير من «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» أن مشاعر العطف والاهتمام بين أفراد المجتمعات المتضررة تسهم بشكل مباشر في تعزيز التعافي النفسي، إذ يسهم الدعم العاطفي المتبادل في تخفيف وطأة الصدمة، ويعين الضحايا على استعادة إنسانيتهم المسلوبة.

وفي خضم المعاناة، يصبح الحب قارب نجاة يحمل الإنسان إلى شواطئ الأمان النفسي، ويضفي على الحياة معنى أعمق يتجاوز حدود الألم، ويجعل الاستمرار ممكنًا حتى في أحلك الأوقات.

ويبقى الحب في كل أبعاده قوة إنسانية مقاومة، لا يقتصر أثره على الأفراد، بل يمتد ليشمل المجتمعات التي تبحث عن خلاصها وسط فوضى الحروب؛ فهو تذكير دائم بأن ما يجمع البشر أعظم بكثير مما يفرقهم، وأن في أعماق كل إنسان قدرة على إعادة بناء ما دمرته قسوة العالم، بفضل شعلة الحب التي لا تنطفئ.

أشكال متعددة

وتتعدد أشكال الحب في قلب الصراعات وضجيج الحروب، لتشمل الحب العاطفي بين الأزواج والمحبين، والحب العائلي الذي يربط أفراد الأسرة رغم الألم والفقد، وحب الوطن الذي يدفع الأفراد إلى الصمود والإصرار على الحياة.

وفي الحروب والنزاعات، يصبح الحب العاطفي بين الأزواج والمحبين ملاذًا نفسيًا وروحيًا لا غنى عنه؛ فهو رابطة تتحدى المسافات والغياب، وتمنح المحبين قوة للاستمرار رغم الانفصال والخطر، فهو لا يقتصر على كونه عاطفة رومانسية، بل يتحول إلى شراكة وجودية تزرع الأمل وتمنح الصبر.

وقد أظهرت الدراسات الاجتماعية أن الأزواج الذين يحافظون على روابط عاطفية قوية خلال الأزمات يظهرون قدرة أكبر على التعامل مع التحديات النفسية والاجتماعية، وهو ما يؤكد أن الحب بين الشريكين يشكل دعامة نفسية حيوية في وجه الصراعات والنزاعات. 

ومن أنواع الحب الأخرى التي تمثل ركيزة مهمة للصمود في أوقات الحروب، هو الحب العائلي، ففي الأزمات، تعيد الأسرة تشكيل نفسها كوحدة مقاومة للظروف، وتستمد من حب أفرادها القوة للتغلب على صدمة النزوح أو التشريد. 

ولا يقتصر الحب العائلي هنا على الحماية المادية، بل يشمل التفاهم والتعاطف الذي يخفف من حدة الألم، ويعطي للأفراد شعورًا بالأمان في ظل الصراعات والحروب.

وقد أشارت دراسة أجرتها «منظمة الأمم المتحدة للطفولة» (UNICEF) حول تأثير الحروب على العائلات إلى أن الأطفال الذين يحظون بدعم عائلي قوي يظهرون قدرة أكبر على التكيف مع الصدمات النفسية مقارنة بمن يفقدون هذا الدعم.

ومن أعظم أشكال الحب التي تتجلى في زمن الحرب، حب الوطن؛ إذ يتحول إلى دافع يوقظ روح التضحية، ويحفز على الصمود، ويعبر عنه الأفراد بطرق متعددة، بدءًا من حماية أراضيهم وحتى إعادة بناء مجتمعاتهم بعد الحرب.

وحب الوطن لا يقتصر على الشعارات، بل يتمثل في التضامن والعمل الجماعي، كما شهد العالم في قصص اللاجئين من سورية، واليمن، وليبيا، والسودان، وغيرهم الذين أعادوا بناء حياتهم في المنافي، دون أن يفقدوا حلم العودة إلى أوطانهم.

الحب، إذاً، بكل صوره ومعانيه، يظل القوة التي تقف في وجه الحروب والأزمات والخراب، وتؤكد أن الروابط الإنسانية أقوى من أي دمار.
 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة