الخطاب الصهيوني المراوغ ( 1 - 4)

والخطاب الصهيوني له سمات محددة أهمها المراوغة
النابعة من تَعدُّد الجهات التي يتوجَّه لها هذا الخطاب:
١ ـ الصهيونية حركة تابعة
يدعمها ويمولها الاستعمار الغربي، ولذا فإن الخطاب الصهيوني يتوجَّه إلى الدول
الاستعمارية الراعية.
٢ ـ لا تتوجه الصهيونية
لهذه الدول وحسب أو لنخبها وحسب وإنما للرأي العام غير اليهودي فيها الذي قد لا
يدرك الأبعاد الإستراتيجية للتحالف بين إسرائيل والحضارة الغربية.
٣ ـ لابد أن يتوجه الخطاب
الصهيوني للمادة البشرية المُستهدَفة، أي تلك الجماعات اليهودية في العالم التي
تنتمي إلى تشكيلات ثقافية وحضارية واجتماعية مختلفة.
٤ ـ تعود الصهيونية إلى
أصول ثقافية ودينية واجتماعية وطبقية متباينة، وهو ما يجعل لكل فريق صهيوني رؤية
وأولويات مختلفة. ومما يجدر ذكره أن التيارات الصهيونية تركت بعض القضايا الأساسية
دون اتفاق. فلم يتم الاتفاق على هوية اليهودي، بل لم يتم الاتفاق على هوية الصهيوني.
كما لم يتحدد التوجه الاجتماعي أو الاقتصادي للعقيدة الصهيونية.
والمشكلة التي واجهها الخطاب الصهيوني هي كيف يمكن
التوجه لكل هذه القطاعات في وقت واحد، إذ كان على الدولة الصهيونية أن تُقدم نفسها
باعتبارها: دولة ديموقراطية تنبع من أيديولوجية ليبرالية وتنتمي إلى الحضارة
الغربية العقلانية، وتقوم في الوقت نفسه بطرد الفلسطينيين وهَدْم قراهم وديارهم
وخوض حروب توسعية تُذكِّر الإنسان بدولة مثل إسبرطة أو بروسيا لا بأثينا. وكان على
الدولة الصهيونية أن تُقدِّم نفسها باعتبارها: دولة علمانية متطرفة في علمانيتها،
ولكنها في الوقت نفسه دينية متطرفة في تديُّنها، ورأسمالية مغالية في رأسماليتها،
واشتراكية مغالية في اشتراكيتها. والحركة الصهيونية تقبل اندماج اليهود في غرب أوروبا
(حتى لا تثير حفيظة يهود هذه البلاد أو حكوماتها) ولكنها في الوقت نفسه تطالب
بتهجير يهود شرقها.
ولإنجاز هذا، ولتحقيق هدفها في اغتصاب فلسطين وطَرْد
أهلها وتجنيد يهود العالم لدعم مشروعها ومده بالمادة البشرية المطلوبة، طوَّرت
الصهيونية خطاباً هلامياً مبهماً غير متجانس بشكل متعمد يتسم بدرجة عالية من عدم
الاتساق ويحتوي على فجوات كثيرة بهدف تغييب الضحية وتشويه صورته.
وقد كتب هرتزل قائلاً إنه "حقق شيئاً يكاد يكون
مستحيلاً: الاتحاد الوطيد بين العناصر اليهودية الحديثة المتطرفة (أي اليهود
المندمجين في غرب أوروبا واليهود غير اليهود)، والعناصر اليهودية المحافظة (أي
يهود شرق أوروبا واليهود المتدينين)، وقد حدث ذلك بموافقة الطرفين دون أي تنازل من
الجانبين ودون أية تضحية فكرية".
كما تَباهَى هرتزل بمصالحة أخرى أجراها بين الحضارة
الغربية ويهود العالم.
وهرتزل كان محقاً تماماً فيما يقول، فالخطاب الصهيوني
المراوغ (الذي وضع هو أساسه) نجح في إخفاء كل التناقضات وفي التوجه إلى كل
القطاعات المعنية، إلى كل قطاع بصوت يرضيه. كما أنه تجاهل العرب تماماً، فلم
يذكرهم بخير أو شر. وقد احتفظ هذا الخطاب بتوجُّهه الأساسي من خلال التمسك بالصيغة
الصهيونية الأساسية الشاملة (والمهوَّدة) وإخفائها إلى حدٍّ كبير في آن واحد، على
أن تعبِّر عن نفسها من خلال تنويعات عليها تخبئها سحابة كثيفة من الإستراتيجيات
والحيل البلاغية المتنوعة التي سندرسها حتى يمكننا أن نفك شفرة الخطاب الصهيوني.
١ ـ محاولة تجاهل الأصول التاريخية أو تزييفها:
من الحيل الأساسية في الخطاب الصهيوني محاولة عزل
الظواهر والدوال عن أصولها التاريخية والاجتماعية والثقافية، بحيث يبدو الواقع كما
لو كان مجرد عمليات وإجراءات ليس لها تاريخ واضح ولا سياق تاريخي محدَّد، ومن ثم
فليس لها سبب معروف أو اتجاه محدَّد. فالصراع العربي الإسرائيلي، على سبيل المثال،
ليس ثمرة العقد الصهيوني الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، والذي
قامت الدول الإمبريالية بمقتضاه بغرس كتلة بشرية غريبة في وسط العالم العربي
والإسلامي، وتحوَّلت هذه الكتلة إلى دولة وظيفية تحتفظ بعزلتها وتقوم بضرب السكان
الأصليين وجيرانها لصالح الراعي الإمبريالي. إذ يتم تناسي كل هذا، ويُقدَّم الصراع
العربي الإسرائيلي باعتباره نتيجة رفض العرب قرار التقسيم وهجومهم
"الغاشم" على "اليهود" المسالمين، دون سبب واضح ومفهوم.
وتُقدَّم الصهيونية لا باعتبارها حركة استعمارية استيطانية إحلالية وإنما
باعتبارها تعبيراً عن الحلم اليهودي المشيحاني الخاص بالعودة إلى صهيون أو أرض
الميعاد، أو باعتبارها حركة إنقاذ يهود العالم من هجوم الأغيار.
داخل هذا الإطار، تصبح المقاومة شكلاً من أشكال الإرهاب غير العقلاني وغير المفهوم، بينما تصبح هجمات إسرائيل على العرب مجرد دفاع مفهوم ومشروع عن النفس. ومن ثم، فإن الجيش الإسرائيلي هو "جيش الدفاع الإسرائيلي". وقد سُمِّيت هذه الحيلة "الأكاذيب الصادقة" "بالإنجليزية: ترو لايز true lies" ، فهي صادقة بمعنى أن هجوم العرب هو حقيقة مادية لا مراء فيها، فهي واقعة قد وقعت بالفعل. ولكنها أكاذيب بلا شك باعتبار أن هجوم العرب على إسرائيل ورَفْضهم قرار التقسيم ليس نتيجة عناد لاعقلاني وإنما هو دفاع مشروع عن الحقوق الثابتة التي أقرتها المواثيق الدولية والقيم الأخلاقية.
وفي هذا الإطار، يمكن أن نفهم بعض الحيل الصهيونية البلاغية الأخرى. فالإصرار على "المفاوضات وجهاً لوجه" باعتبارها الحل الوحيد والناجع للصراع العربي الإسرائيلي هو إصرار على إجراءات دون أية مرجعية أخلاقية أو تاريخية، وكأن الصراع أمر غير مفهوم ليس له أصل؛ وكأنه ليس هناك حالة من التفاوت والظلم ناتجة عن الغزو.
وقل الشيء نفسه عن دعوة الأمريكيين لكل من العرب والصهاينة إلى أن يظهروا ضبط النفس والاستعداد لتقديم التنازلات. ويُضرَب المثل بقرار التقسيم. فقد أظهر الصهاينة الاعتدال بقبول أكثر من نصف فلسطين، أما الفلسطينيون فقد أظهروا تطرُّفهم برفضهم ما قُدِّم إليهم. فالاعتدال والتطرف في هذا السياق قد عُرِّفا في إطار تجاهل الأصول التاريخية وهو أن المستوطنين الصهاينة مغتصبون جاءوا إلى أرض فلسطين يحملون السلاح واحتلوا أجزاء منها، وما فعله قرار التقسيم هو قبول حادثة الاغتصاب بل منحهم المزيد من الأرض ليؤسسوا دولتهم فيها.
ومنذ إنشاء دولة إسرائيل، استمر استخدام هذه الحيلة إلى أن وصلنا إلى شعار "الأرض مقابل السلام" الذي يمكن ترجمته ببساطة إلى "بعض القرى والمدن التي كان قد تم الاستيلاء عليها بقوة السلاح الغربي تُعاد مقابل السلام الذي يعني وقف المقاومة ويعني الاستسلام". وهذا يعني ببساطة "أرض بلا شعب حي قادر على المقاومة وبلا ذاكرة تاريخية"، أي أنها تعني "نسيان الظلم الذي وقع في الماضي وفرض السلام حسب الشروط الصهيونية".
ويرتبط بهذا الاتجاه نحو إنكار التاريخ وتغليب عنصر
المكان على عنصر الزمان فتتحول "فلسطين" إلى "أرض"
و"الوطن العربي" إلى "منطقة" وتبحث إسرائيل عن "الحدود
الآمنة" الجغرافية التي لا تأبه بالتاريخ. وتُعبِّر نظرية الأمن الإسرائيلية
عن هذا التحيز الشديد للجغرافيا والتجاهل الكامل للتاريخ. ولذا، فإن أية حركة من
العرب تذكر الصهاينة بوجود عنصر الزمان (كماض وتراث ومخزون للذاكرة وكحاضر وصراع
وكمستقبل وإمكانية ومجال للحرية والحركة) تولِّد الذعر الشديد في قلوب المستوطنين
الصهاينة، وتُسمَّى مثل هذه الحركة "إرهاب".
________
كتاب "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"