الذكاء الاصطناعي.. و«التدين الرقمي»

يعد الذكاء
الاصطناعي واحدًا من أهم وأحدث الأسلحة التي استعملتها معظم دول العالم، فهناك من
أجاد استخدامه، وتغذى بفوائده، وهناك من أساء استخدامه، فانكبّ على وجهه، وشرب
سُمه، وضيع دينه، وانساق وراء الشعارات المغرضة، والبريق الكاذب لأدوات الذكاء
الاصطناعي، فسرعان ما وقع ضحية لهذه الأدوات، بدلًا من تسخيرها لخدمة مجتمعه،
ودينه، وبلاده، ووفقًا لتقرير «مؤشر الذكاء الاصطناعي 2024»، تبين أن تأثير الذكاء
الاصطناعي يتزايد على المجتمعات بشكل غير مسبوق، وتوقعت مؤسسات عدة أن هذا القطاع
سيسهم بحوالي 320 مليار دولار في الناتج المحلي لدول الشرق الأوسط بحلول عام 2030م.
فالذكاء
الاصطناعي عبارة عن تقنية تتيح لأجهزة الحاسوب تحليل البيانات، والتفاعل مع الناس
بطريقة تحاكي الذكاء البشري، مما جعله أداة فعالة لنشر المعرفة والتعلم، ومن
المعلوم أن الدين الإسلامي يحث دائمًا على البحث العلمي، والتطور التكنولوجي،
وتسخيرهما في النفع العام، مع مراعاة عدم التعارض مع القيم والمبادئ الإسلامية، بل
إن الإسلام رفع شأن العلم والعلماء، فقال سبحانه وتعالى في كتابه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ) (المجادلة: 11)، كما حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العلم، وأن
نعلمه للناس ما دام خيرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل
السماوات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر؛ ليصلون على معلمي
الناس الخير».
ومن هذا المنطلق،
أصبح الذكاء الاصطناعي بأدواته المختلفة وسيلة مبتكرة للمساهمة في التعريف
بالإسلام، والقيم الدينية والأخلاقية، وذلك من خلال تقديم المعلومات الصحيحة،
وتوفير الأحكام والفتاوى الشرعية، وترجمة النصوص الإسلامية بطريقة مبسطة، وسهلة،
وسريعة، وهذا ما أدى إلى ظهور مصطلح «التدين الرقمي»، وعلى الرغم من أهمية هذا
المصطلح، فإن التساؤل ما زال قائمًا حول مدى دقة أدوات الذكاء الاصطناعي في عرض
المحتوى الإسلامي، والتحديات التي قد تواجه هذه الأدوات إذا ما تم تسخيرها لخدمة
الدين، وهذا في حد ذاته يستدعي تدخل رجال الدين من المتخصصين والعلماء للإشراف على
المحتوى المقدم.
يتبين مما سبق
أن دراسة العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والدين الإسلامي، وما نتج عنها التدين
الرقمي تعد موضوعًا ذا أهمية كبيرة، يستحق البحث والنقاش، لتحقيق أقصى استفادة من
هذه الأدوات، وتسخيرها في خدمة الإسلام، ونشر التعاليم الإسلامية، والضوابط
الدينية والأخلاقية، وهذا ما سنسلط عليه الضوء في السطور القادمة إن شاء الله.
مفهوم
الذكاء الاصطناعي (AI)
يعد الذكاء
الاصطناعي أحد فروع علوم الحاسوب والذي يهدف إلى إنشاء أنظمة قادرة على محاكاة
الذكاء البشري، ومن ثم أداء المهام المتعلقة به والتي تطلب عادة ذكاء بشري مثل:
التعلم، اتخاذ القرار، التفكير، التفاعل مع البيئة.. وما إلى ذلك، ويعتمد الـ (AI) على مجموعة
متنوعة من التقنيات مثل: التعلم الآلي (Machine Learning)، ومعالجة اللغة الطبيعية (NLP)، والتعلم
العميق (Deep Learning)، ورؤية الحاسوب (Computer Vision).
ويتميز الذكاء
الاصطناعي بتعدد أنواعه؛ فمنها ما يختص بتنفيذ مهام محددة مثل الترجمة، والتعرف
على الصور، والمساعدات الصوتية، وهو ما يعرف بالذكاء الاصطناعي الضيق، وهناك نوع
آخر يمتلك قدرات عقلية مشابه للبشر إلى حد ما، حيث يمكن لهذا النوع التعلم،
والتكيف مع مختلف المجالات، وهو ما يعرف بالذكاء الاصطناعي العام، وهناك نوع آخر
يعرف باسم الذكاء الاصطناعي الفائق، ونظرًا لأهمية الذكاء الاصطناعي بمختلف أنواعه
فإن تقرير صندوق النقد الدولي يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يؤثر على نحو 40%
من الوظائف عالميًا، حيث سيحل محل بعضها، ويكمل بعضها الآخر.
مفهوم
«التدين الرقمي»
التدين الرقمي
عبارة عن مفهوم حديث، يشير إلى استخدام التكنولوجيا الرقمية (الإنترنت، التطبيقات
الذكية، وسائل التواصل الاجتماعي) وتسخيرها لخدمة الدين، وتعزيز التدين، ونشر
القيم الإسلامية، خاصة بين المسلمين البالغ عددهم 2.04 مليار شخص، مما يمثل أكثر
من 25% من إجمالي سكان العالم، ويشمل مفهوم التدين الرقمي الأنشطة الدينية التي
تتم عبر الوسائل الرقمية، ومنها:
- الوصول إلى
المحتوى الديني: كالاستماع إلى القرآن الكريم، والمحاضرات والدروس الإسلامية،
والمقالات والفتاوي الشرعية عبر الإنترنت وما إلى ذلك.
- التفاعل
الديني عبر وسائل التواصل الاجتماعي: ويتم ذلك من خلال مشاركة الآيات القرآنية،
والأحاديث، والتواصل مع العلماء عبر مختلف المنصات الرقمية، وكذلك نشر التوعية
الإسلامية.
- التطبيقات
الدينية: وتتعدد هذه التطبيقات ومنها تطبيقات الآذان، والمصاحف الإلكترونية،
وبرامج الذكاء الاصطناعي المتخصصة في الإجابة عن الأسئلة الدينية، بالإضافة إلى
برامج الفتاوي الذكية.
- العبادات
الإلكترونية: ومنها حضور دروس التعلم عن بُعد، والمشاركة في الحملات الدينية
التوعوية عبر الإنترنت، والتبرع للجمعيات الخيرية عبر المنصات الرقمية.
مما سبق يتبين
أن مفهوم التدين الديني من الأمور المهمة لأنه يسهل الوصول إلى المعرفة الدينية
لأي شخص، وفي أي وقت، وفي كل مكان، حيث يقرب المسافة بين علماء الدين والجمهور من
خلال الوسائل الرقمية الحديثة للتواصل، مما يساعد على نشر تعاليم الديني الإسلامي
بطرق مبتكرة وجذابة لمختلف الأجيال، كما يوفر العديد من المصادر الموثوقة للفتاوى
والمعلومات الإسلامية التي يحتاج إليها المسلمين –وغيرهم– في جميع أنحاء العالم.
استخدامات
الذكاء الاصطناعي في التعريف بالإسلام
يمتلك الذكاء
الاصطناعي العديد من الإمكانات التي تجعله أداة قوية للتعريف بالإسلام، ونشر
تعاليمه وقيمه وأخلاقه، بطرق مبتكرة وفعالة، ومن الاستخدامات التي يمكن للذكاء
الاصطناعي المساهمة بها في التعريف بالإسلام ما يلي:
- روبوتات
الدردشة الإسلامية: حيث يمكن أن تساهم الروبوتات المدعومة بالذكاء الاصطناعي في
الإجابة عن أسئلة غير المسلمين حول الإسلام بطرق دقيقة ومبتكرة، كما يمكن أن توفر
العديد من المعلومات الموثوقة حول العقيدة، والسيرة، والعبادات.
- تطبيقات
الهواتف الذكية الإسلامية: وذلك مثل تطبيقات القرآن الكريم بالذكاء الاصطناعي
والتي توفر العديد من التلاوات، وتفسر معاني الآيات، وتحللها، بالإضافة إلى
التطبيقات التي تقدم الأذكار والأدعية اليومية، حسب احتياجات المستخدم.
- ترجمة النصوص
الإسلامية بشكل فوري: فبإمكان أدوات الذكاء الاصطناعي تحسين ترجمة آيات القرآن
الكريم، وتفسيراته إلى لغات متعددة، وهذا في حد ذاته يسهل على غير الناطقين
بالعربية (لغة القرآن الكريم) فهم الإسلام، ومعرفة أركانه، وسننه، وشرائعه.
- منصات التعلم
الإلكتروني الإسلامي: حيث بدأت العديد من المنصات مثل Udemy Coursera في تقديم
دورات علمية بأحدث أدوات الذكاء الاصطناعي عن الإسلام، كما يمكن تخصيص المحتوى
التعليمي الإسلامي وفقًا لمستوى معرفة كل شخص.
- الفيديوهات
التفاعلية والتفاعل الصوتي: حيث يمكن لهذه الأدوات المساعدة في إنتاج فيديوهات
تفاعلية لشرح المفاهيم الإسلامية بطرق مبسطة، كما يمكن تطوير مساعدات صوتية
إسلامية مثل "Alexa الإسلامية" أو "Google Assistant الإسلامي" للإجابة على العديد من الأسئلة الفقهية، بالإضافة
إلى توجيه المسلمين وغير المسلمين نحو المصادر الصحيحة التي يمكن الاعتماد عليها
في تحصيل العلوم والمعرفة الدينية.
- مكافحة
المعلومات الخاطئة عن الإسلام: فبإمكان أدوات الذكاء الاصطناعي تحليل أي نوع من
أنواع المحتوى المنشور عن الإسلام عبر الإنترنت، ومن ثم التعرف على مدى صحة هذه
المعلومات، وتصحيح المعلومات الخاطئة منها، وذلك من خلال منصات موثوقة، كما يمكن
مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، وإبداء الرأي الصحيح، ونشر الردود العلمية على
الشبهات التي يتم تداولها، أو نشرها عبر هذه الوسائل.
الذكاء
الاصطناعي وعرض المحتوى الإسلامي
على الرغم من
أهمية أدوات الذكاء الاصطناعي في عرض المحتوى الإسلامي، إلا أن هذا العرض قد لا
يكون دقيقًا في كثير من الأحيان، وحتى تنجح هذه الأدوات في عرض المحتوى الإسلامي
بدقة، لابد من مراعاة مجموعة من العوامل المتمثلة في:
- الاعتماد على
المصادر الموثوقة: حيث يجب تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على مصادر إسلامية متعمدة
وصحيحة، وتتمثل هذه المصادر في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وكتب الفقه
الموثوقة، وفي حالة الاعتماد على هذه المصادر، فإن دقة المحتوى الإسلامي ستكون
عالية.
- الإشراف
البشري والعلمي: فمن الضروري مشاركة العلماء في مراجعة المحتوى الذي يتم إنتاجه
بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي، مما يسهم في تجنب الأخطاء، والتفسيرات غير
الدقيقة، أو تصحيحها.
- استخدام
التقنيات المتقدمة: فالذكاء الاصطناعي المتطور الذي يعتمد على معالجة اللغة
الطبيعية (NLP) يمكن أن يفهم النصوص الإسلامية بشكل صحيح،
ومن ثم تحليلها بدقة عالية.
- التحديث
المستمر: فلابد من تحسين الخوارزميات المستخدمة، وتصحيح الأخطاء بشكل مستمر، بما
يعزز أمانة ودقة المحتوى الذي يتم تقديمه.
التحديات
التي قد تؤثر على دقة الذكاء الاصطناعي في عرض المحتوى الإسلامي
على الرغم من
أهمية الذكاء الاصطناعي، ودورها الكبير في عرض المحتوى الإسلامي، إلا أن هناك
العديد من التحديات التي يمكن أن تؤثر على دقة هذا المحتوى، ومن هذه التحديات ما
يلي:
- التحيز
البرمجي: فمن الممكن أن يحتوي الذكاء الاصطناعي على العديد من التحيزات من قبل
القائمين عليه (خاصة إذا كانوا من أعداء الإسلام)، حيث يمكن برمجته بطريقة غير
موضوعية تؤدي إلى تفسير غير دقيق للنصوص الإسلامية.
- صعوبة فهم
السياق الديني العميق: فبعض المفاهيم الإسلامية تتطلب فهمًا دقيقًا لسياقها،
واجتهادًا فقهيًا لمدلولاتها، مما قد يشكل صعوبة على الذكاء الاصطناعي دون التدخل
البشري.
- تعدد
التفسيرات والمذاهب: يمكن أن تؤدي هذه التعددية إلى وجود بعض التحديات المتعلقة
بتقديم محتوى موحد يتناسب مع جميع هذه المذاهب.
- إساءة
الاستخدام: فمن الممكن استغلال الذكاء الاصطناعي بشكل خاطئ لنشر معلومات مضللة، أو
تحريف النصوص الإسلامية، خاصة إذا لم يتم مراجعة المحتوى من قبل المتخصصين
والعلماء.
وحتى يتم التغلب
على هذه التحديات، والاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي في نشر الإسلام، وعرض
المحتوى الإسلامي بدقة ومصداقية، لابد من بناء أنظمة ذكاء اصطناعي تحت إشراف
العلماء والمتخصصين لضمان صحة المعلومات والتفسيرات المقدمة، ويمكن إنشاء قواعد
بينات إسلامية موثوقة لاستخدامها كمرشد أو مدرب لأدوات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة
إلى تطوير نماذج متخصصة لفهم السياق الدين بطريقة صحيحة.
نماذج
استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر الدين والمعرفة الإسلامية
يوجد العديد من
المؤسسات الدينية الإسلامية التي بدأت بالفعل في استخدام الذكاء الاصطناعي وأدواته
المختلفة لتحسين خدماتها المقدمة لنشر الدين، والمعرفة الإسلامية بطرق مبتكرة
وفعالة، ومن أبرز هذه المؤسسات ما يلي:
- هيئة الشؤون
الدينية في المملكة العربية السعودية (رئاسة الحرمين الشريفين): حيث استخدمت
روبوتات الذكاء الاصطناعي لتقديم الإرشادات للمعتمرين والزوار بعدة لغات، بالإضافة
إلى الإجابة عن العديد من الأسئلة الفقهية بناءً على الفتاوى الموثوقة التي يقدمها
العلماء.
- وزارة الأوقاف
الإماراتية: حيث أطلقت روبوت "فتاوى" الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي للرد
على الاستفسارات والأسئلة الشرعية وفق المذاهب المعتمدة، بالإضافة إلى تحسين تجربة
الحجاج والمعتمرين من خلال تقديم معلومات فورية عن المناسك وكيفية أدائها.
- جامعة الأزهر
والمؤسسات الفقهية: حيث بدأ الأزهر الشريف في مصر بدراسة استخدام الذكاء الاصطناعي
وتوظيفه في تحليل النصوص الفقهية، وإصدار الفتاوى، بالإضافة إلى تصنيف الأحاديث
النبوية وفق درجات الصحة والضعف.
- مجمع الملك
فهد لطباعة المصحف الشريف: حيث يستخدم المجمع أدوات الذكاء الاصطناعي في التعرف
على الأخطاء المطبعية في النسخ التي تم طباعتها، بالإضافة إلى إمكانية تحسين
وتحليل أساليب تلاوة القرآن الكريم عبر تطبيقات مبتكرة ومتطورة.
من هنا يتبين أن
الذكاء الاصطناعي أصبح أداة قوية لنشر المعرفة والعلوم الإسلامية، وتحسين خدمات
الحجاج، وتقديم العديد من الفتاوى، بما يعزز تجربة التعلم الديني، ولذا يجب على
المؤسسات الدينية توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي لنشر المعرفة الدينية في جميع
أنحاء العالم، بالإضافة إلى تصحيح المعلومات المغلوطة التي تروجها المصادر غير
الموثوقة.
الخاتمة
والتوصيات
في الختام،
يُعَدّ الذكاء الاصطناعي أداة قوية، وفعالة، لنشر الإسلام، وتعزيز فهمه بطرق حديثة
ومبتكرة وفعالة، فمن خلال أدوات الذكاء الاصطناعي يمكن الوصول إلى شريحة كبيرة من
الناس من مختلف دول العالم، بالإضافة إلى تقديم المعلومات والمعرفة الإسلامية
بطريقة دقيقة، وسهلة الفهم، وهذا في حد ذاته يسهم بشكل كبير في عرض المحتوى
الإسلامي بدقة، ويصحح المفاهيم الإسلامية الخاطئة.
فالذكاء
الاصطناعي يتيح تطوير منصات تعليمية ذكية، ويترجم النصوص الدينية، ويعمل على توفير
إجابات موثوقة للأسئلة والاستفسارات الفقهية، مما يسهل على المسلمين وغير المسلمين
التعرف على التعاليم الصحيحة للإسلام، بأسلوب يناسب التقدم الذي يشهده العصر
الرقمي.
وعلى الرغم من
أهمية الذكاء الاصطناعي لنشر الإسلام، إلا أنه لا يمكن أن يحل محل العلماء، أو
رجال الدين، أو حتى الاجتهاد البشري بشكل كامل، ولذا يجب أن يكون هناك إشراف علمي
دوري وبشكل مستمر، وأن يُستخدم الذكاء الاصطناعي بأدواته المختلفة كوسيلة مساعدة،
وليس مصدراً وحيداً للمعلومة، وذلك لضمان نشر رسالة الإسلام بأسلوب علمي، وتقني،
ودقيق، بما يواكب العصر الرقمي، ويساير تحديات المستقبل.