الذكاء الاصطناعي.. وجيل النصر المنشود

في قلب تطلعات الأمة
الإسلامية للنهضة، يبرز مفهوم (جيل النصر) كرمز لأمل الأمة في استعادة مكانتها
الحضارية، خاصة في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي وعوامل تقنية أخرى، تمكن هذا الجيل من
تحقيق ما لم تحققه أجيال سابقة.
يجد جيل الألفية
الثالثة نفسه اليوم أمام ثورة تكنولوجية غير مسبوقة باتت تشكل ملامح المستقبل
البشري، وتقدم فرصة تاريخية للأمة الإسلامية لتكون لاعبا رئيسيا في بناء عالم
جديد، على التوازي مع مؤشرات انزواء محتمل لعالم القطب الأوحد ذي القيادة الأميركية.
أمام هذا التحول، تبرز
أهمية مفهوم (جيل النصر) الذي يشير إلى الجيل القادر على استعادة الدور الحضاري
للأمة الإسلامية من خلال امتلاك أدوات العصر والمساهمة في تشكيل مستقبله، وهو
المفهوم الذي يبدو منسجما مع مبدأ الاستخلاف في الأرض الذي أشار إليه القرآن
الكريم في قوله تعالى: (وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:
30).
وفي تقديري أننا أمام
لحظة فارقة تجمع بين الإرث الروحي والطموح العلمي، ويمكننا استغلالها بتسخير ما
سخره الله لنا من أدوات تمكّن الآلات من محاكاة التفكير البشري، وهو ما لا يمكن
فصله عن الرؤية الإسلامية للعلم كوسيلة لفهم الكون وتسخيره.
فالقرآن الكريم يدعو
إلى التأمل والتفكر في خلق الله، كما في قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) (الجاثية:13)، ومن هنا فإن الذكاء الاصطناعي
يمثل امتدادا لهذا التسخير، إذ يعزز قدرة الإنسان على التحكم بموارده وتحسين حياته.
كما أن مفهوم الاستخلاف
في الأرض، الوارد في قوله تعالى: (وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" (البقرة:
30)، يحمل في طياته دعوة للإبداع والابتكار، ما يعني أن تسخير الذكاء
الاصطناعي يمكن أن يجعل منه أداة لتحقيق مقاصد الشريعة الكبرى، وعلى رأسها حفظ
النفس والعقل، إذا وُجّه لخدمة الإنسانية بدلا من استغلالها، وإذا ما استطاعت
الأمة الإسلامية استثماره برؤية متجذرة في قيمها ومقاصدها.
براءات الاختراع
لكن هذه الفرصة لا تخلو
من عقبات، فالفجوة الرقمية بين عالمنا الإسلامي والدول الغربية في مجال الذكاء
الاصطناعي واضحة، فوفق تقرير نشرته مؤسسة محمد بن راشد للمعرفة عام 2023، تستحوذ
الدول الإسلامية على أقل من 5% من براءات الاختراع العالمية في مجال الذكاء
الاصطناعي، بينما تتركز 76% منها في الولايات المتحدة والصين.
ويضع هذا الواقع (جيل
النصر المنشود) أمام تحد معرفي يتطلب جهودا مضاعفة من الناحية التقنية، فضلا عن
التحديات الأخلاقية التي يفرضها التعامل مع الذكاء الاصطناعي، مثل قضايا الخصوصية
والتحيز في الخوارزميات.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي.. و«التدين الرقمي»
وتستدعي مواجهة هذه
التحديات التمسك باستقلالية الابتكار الجديد والقدرة على نقل التقنيات إلى بلداننا
الإسلامية، أما الاعتماد على تقنيات مستوردة دون المساهمة في تطويرها فهو خطر يهدد
استقلالية الأمة ويجعلها أسيرة (المورّد)، وهو الفخ الذي وقعت فيها كثير من
بلداننا الإسلامية فيما يتعلق باحتياجاتها الرئيسية، خاصة من الغذاء والدواء
والسلاح.
ولا شك أن هذا الواقع
يتعارض مع جوهر دعوة القرآن للاستعداد والقوة في مواجهة الأعداء: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)، إذ لا يمكن تحقيق ذلك والأمة
معتمدة كليا على معارف وابتكارات غيرها.
من زاوية أخرى، يمثل
الذكاء الاصطناعي فرصة لفتح أبواب واسعة للنهضة من خلال إحياء التراث الإسلامي عبر
(رقمنة) المخطوطات وتحليلها، مما ييسر الوصول إلى كنوز المعرفة.
اقر أيضاً: الإفتاء في الزمن الرقمي
على سبيل المثال، أشارت
دراسة نشرتها مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة عام 2023 إلى
إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي في تيسير البحث في علم الحديث، بما يشمل تخريج
الأحاديث وتحليل الرواة وفق مناهج المحدثين، وهو ما يعزز البحث في العلوم الشرعية،
ويختصر جهودا أنفق فيها علماء كبار، من أمثال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
والشيخ شعيب الأرناؤوط، عقودا من أعمارهم.
ومن شأن تطبيقات كهذه للذكاء
الاصطناعي أن تصل بنا إلى نتائج نوعية في مجالات الفقه وعلم الحديث، إذ لم تعد (المعرفة
الإحاطية) متعذرة حتى لعموم الأفراد، فما بالنا بالعلماء والمؤسسات العلمية؟!
المنظومة التعليمية
ولتحقيق ذلك يجب إصلاح
المنظومة التعليمية لتدمج علوم الذكاء الاصطناعي في المناهج، مع التركيز على
الإبداع لا التلقين، وهو ما يتطلب -في تقديري- تشجيع البحث العلمي في القطاع بشكل
استثنائي، مستلهمين في ذلك قول الله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ
الْخَلْقَ) (العنكبوت: 20).
وفي طريق تحقيق هذا
الهدف لابد من بناء منظومة قيمية إسلامية للتعامل مع الذكاء الاصطناعي لضمان
استخدامه في ما ينفع الناس، وهنا تلعب المؤسسات الدينية دورا رئيسيا في توجيه
التقنية، مستندة إلى مقاصد الشريعة التي تحث على الخير والعدل.
يحضرني في هذا السياق
التنويه بتجربة ماليزيا في تطوير نماذج ذكاء اصطناعي لتحليل النصوص الشرعية،
ومبادرات عربية مثل (الذكاء الاصطناعي بالعربي) في المملكة العربية السعودية،
والتي تظهر كيف يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي لخدمة المجتمع، وأعتقد أن هذه النماذج
دليل على إمكانية نجاح جيل النصر المنشود في قيادة هذا المجال.
إن الذكاء الاصطناعي
ليس مجرد أداة تقنية، بل فرصة تاريخية لجيل يمكن أن يترك بصمته في الحضارة
الإنسانية، لكن هذا يتطلب توازنا بين استثمار إمكاناته والحفاظ على الهوية
الإسلامية، مصداقا لقول الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: 77)، فالعمل الجماعي بين المؤسسات
الدينية والعلمية والاقتصادية هو السبيل لبناء مستقبل يجمع بين القوة المادية
والمعنوية، محققا نصرا حقيقيا لأمة طال انزواؤها ويحتاج العالم إلى تحررها
وانطلاقها.
هذه الفرصة تتجاوز مجرد لحاق جيل النصر المنشود بركب التقدم، إلى المشاركة في تشكيل مستقبل البشرية بقيم العدل والرحمة التي جاء بها الإسلام، مصداقا لقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: 143)، ولكي يتحقق هذا الهدف يجب أن نؤمن بأن التفوق التقني ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتحقيق الاستخلاف الحضاري المنشود الذي يجمع بين عمارة الأرض وعبادة الله.
اقر أيضاً: تصوير الجنة بالذكاء الاصطناعي