الرسول ﷺ.. والتربية الوالدية (4)

صفات المربين من خلال التربية النبوية للأولاد

د. عادل هندي

17 أبريل 2025

174

لقد أوصى الله تعالى الآباء بحُسْن القيام على تربية أبنائهم، فحين يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اعدِلُوا بينَ أبنائِكم، اعدِلُوا بينَ أبنائِكم»(1)، فهذا يعني في أبسط معانيه ضرورة التربية العادلة التي لا تفتح بابًا للشيطان، ومسؤولية الأبوين يلخّصها الإمام المُرَبِّي أبو حامد الغزالي رحمه الله فيقول: «والصبيّ أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإن عُوّد الخير وعُلّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدّب وإن عُوّد الشـر وأهمل إهمال البهائم، شقي وهلك، وكان الوِزْر في رقبة القيِّم عليه والوالي له»(2).

وقد لخّص الإمام ابن القيم تلك القيمة بقوله: «فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم قال الله جل جلاله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ) (الإسراء: 31)، فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه فأضاعوهم صغارا، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أبت إنّك عققتني صغيرًا فَعَقَقْتُك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتُكَ شيخا»(3).

ومن هنا تأتي أهمية التعرف على صفات المربي الناجح من خلال سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهجه التربوي في التعامل مع الأطفال، وعلى هذا فإنّ مِن بين الصفات التي ينبغي أن يتّصف بها المُرَبِّي، ما يلي:

أولاً: الوعْي بعِظَم مسؤولية التربية قبل السعي في مراحلها:

فمِمّا يؤكّد عِظم المسؤولية ما ورد في كتاب الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6)، ويشير الإمام الرّازي إلى معنى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) بقوله: «قوا أنفسكم، أي: بالانتهاء عمّا نهاكم الله تعالى عنه، ثم ينقل عن مقاتل رحمه الله قوله: أن يؤدّب المسلم نفسه وأهله، فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشـر»(4).

ولقد أكّد النبيّ صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه على أن الآباء والأمهات يتحمّلون مسؤولية الرعاية والتربية للأبناء والبنات، وأن الرعاية فريضة وعبادة؛ ففي الحديث: عَنْ عَبْدِالله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا..»(5).

ويتحدّث الإمام ابن حجر في «الفتح» عن سبب تلك المسؤولية وعلّة تحمّلها، فيقول: «لأنَّ أهل المرء ونفسه من جملة رعيته وهو مسؤول عنهم؛ لأنه أُمر أن يحرص على وقايتهم من النار وامتثال أوامر الله واجتناب مناهيه»(6)، وفي الحديث أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ»(7)، فولي الأمر مسؤول عن أولاده ورعيته، فإذا أهملَ عُوقِب.

ومما يساعد المربي على تحقيق الوعي بعظم التربية وأهميتها: القراءة في الكتب التربوية المتخصصة، أو حضور دورات تدريبية في تربية الأولاد، ولا يتعلّل المُرَبِّي بالانشغال بتحقيق الحياة الكريمة، أو السعي في لقمة العيش؛ لأنه -باختصار- لا قيمة للمال والابن يُفسده ويُهلكه بسوء تصـرفاته الناتجة عن عدم رؤيته لنموذج تربويّ ناجح.


الرسول ﷺ.. والتربية الوالدية (3) |  مجلة المجتمع الكويتية
الرسول ﷺ.. والتربية الوالدية (3) | مجلة المجتمع الكويتية
أدبيات المنهج النبوي في التربية الناجحة، وكان من بين ذلك: الأخذ بالأسباب عند الزواج ابتداء، ثم الأبوة الحانية
www.mugtama.com
×


ثانيًا: الرفق والحلم لا العنف والتسلّط:

فالرّفق من أعظم الأخلاق والسمات التي يجب أن يتعامل بها المربون مع أبنائهم وبناتهم؛ فإنه إن فقد الابن الأمان داخل البيت فلا شكّ أنه سيُقنع نفسه بأمانٍ يجده مع صحبة مفسدة أو في رحاب صداقة تقتل أخلاقه وتنحر بيدها قِيَمَه، ولذا فقد جاء التأكيد النبويّ: «إِنَّ الله رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ»(8)، وفي رواية: «إِنَّ الله رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ»(9).  

والمربي الواعي لا يثيره الخطأ بحيث يستشيط غضبًا ويقسو على من هو أدنى منه، ومن الطَّريف الذي يُحكَى -استئناسًا- ما نقله صاحب المستطرف بقوله: «قال عبدالله بن طاهر: كنَّا عند المأمون يومًا، فنادى بالخادم: يا غلام، فلم يجبه أحد، ثم نادى ثانيا، وصاح يا غلام، فدخل غلام تركيّ وهو يقول: ما ينبغي للغلام أن يأكل ويشـرب كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام إلى كم يا غلام، فنكس المأمون رأسه طويلا، فما شككت أنه يأمرني بضـرب عنقه، ثم نظر إليّ فقال: يا عبدالله إن الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، وإذا ساءت أخلاقه حسن أخلاق خدمه، وإنا لا نستطيع أن نسـيء أخلاقنا لنحسن أخلاق خدمنا»(10).


الرسول ﷺ.. والتربية الوالدية (2) |  مجلة المجتمع الكويتية
الرسول ﷺ.. والتربية الوالدية (2) | مجلة المجتمع الكويتية
البشـرية لم تشهد في تاريخها مربياً أتقن وأجادَ فنون التربية قولاً وسلوكاً مثل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
www.mugtama.com
×


ثالثًا: الرحمة واللين لا القسوة والشدّة:

إنّ الرحمة هي عبادة القلب نحو الغير بالإحساس والتخفيف والتيسير والمواساة، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم رحيما بالعيال، كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»، قَالَ سيدنا أنس: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ(11) قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ»(12).

يقول الإمام النووي: «فَفِيهِ بَيَانُ كَرِيمِ خُلُقِهِ وَرَحْمَتِهِ لِلْعِيَالِ وَالضُّعَفَاءِ… وَفِيهِ فَضِيلَةُ رَحْمَةِ الْعِيَالِ وَالأَطْفَالِ وَتَقْبِيلِهِمْ»(13)، وعلى هذا فإنّ المُرَبِّي الذي ينقصه الرحمة لا يصلح للتربية، ففقدان الرحمة يعني الغلظة والشدّة والعقاب الدائم، كما أن مأساة الغلظة تُنتِج أبناء أصابتهم الهزيمة النفسية وضعف الثقة، أما الرّحمة فبها يرطّب الوالد نفسيّة ولَدِه، ويجذب انتباهه إلى الحسن من القول والسلوك، ويحضّه من خلالها على الخير، ويدعم بها الثقة بينه وبين الولد،

فغياب الرّحمة في التربية هي إحدى مدمّرات العلاقة بين الآباء والأبناء، التي منها: العنف، والعقاب، والتسلّط، والسخرية، والصراخ الدائم، وممارسة التحبيط، والحرمان.. إلى غير ذلك، وقد شاع في أوساط المربين استخدام الضرب والإهانة للأولاد -من وجهة نظر المُرَبِّي- كوسيلة للتربية، وهذا مما منعته الشريعة الإسلامية وحذّر منه النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد ورد في حديثه صلى الله عليه وسلم ما يدلل على أن من تعامل بالقسوة والشدة مع الأولاد فقد خرج عن منهج النبوّة الرشيد؛ فعن ابن أبي نَجيحٍ، عن ابنِ عامرٍ، عن عبدالله بن عمرو يرويه، قال ابنُ السـرح: عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن لم يرحَمْ صَغيرَنا، ويَعرِفْ حقَّ كبيرِنا، فليسَ منَّا»(14)، ففيه دعوة صريحة إلى الرحمة بالأطفال، وخطورة القسوة وأنها قد تنزع عن المرء نسبته الشريفة إلى كمال الإسلام والإيمان.

رابعًا: الثبات الانفعالي لا التهوّر والاندفاع:

ويُراد بالثبات الانفعالي: ضبط الانفعالات النفسية عند التعامل مع الأولاد، من التحكم في الغضب، والقدرة على كظم الغيظ؛ فإن الأولاد في مراحلهم الأولى لا يتعمّدون الخطأ، وهم بحاجة إلى من يتفهّم مقصدهم، ويصَحِّح لهم أخطاءهم، ولا يتحقق ذلك للمُربِّي إلا إذا كان صبورًا، قادرًا على التحكم في انفعالاته، والمُتأمِّل في سيرة النبيّ الأعظم والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم يجده صابرًا على الأذى، مُتحمّلاً لأخطاء الغير، حتى تعلّم على يديه من جهِل، وصوّب بحكمته خطأَ مَن أخطأ.





____________________

(1) سنن أبي داود: أول كتاب البيوع، باب في الرجل يُفَضِّلُ بعض ولده على بعضٍ في النُّحْلِ (3544)، وهو حديث حسن،  

(2) إحياء علوم الدين: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505هـ)، ج3، ص72، ط، دار المعرفة- بيروت (بدون تاريخ).

(3) تحفة المودود بأحكام المولود: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت 751هـ)، تحقيق: عبدالقادر الأرناؤوط، ص229، ط1/ 1391هـ/ 1971م، مكتبة دار البيان- دمشق.

(4) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير: أبو عبدالله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي (ت 606هـ)، ج30، ص572، ط3/ 1420هـ، دار إحياء التراث العربي- بيروت.

(5)  صحيح البخاري: كِتَاب فِي الاسْتِقْرَاضِ وَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَالحَجْرِ وَالتَّفْلِيسِ، بَابٌ: العَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَلاَ يَعْمَلُ إِلا بِإِذْنِهِ، (2409).

(6) فتح الباري شرح صحيح البخاري: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، ج9، ص254، ط: دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.

(7) صحيح البخاري: كتاب الأحكام، بَابُ مَنِ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ، (7150).

(8) أخرجه البخاري عن عائشة في كتاب: اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُعَانِدِينَ وَقِتَالِهِمْ، باب: إِذَا عَرَّضَ الذِّمِّيُّ وَغَيْرُهُ بِسَبِّ النَّبِيِّ وَلَمْ يُصَرِّحْ، (6927).

(9) أخرجه مسلم عن عائشة في كتاب: الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالآدَابِ، بَاب: فَضْلِ الرِّفْق، (2593).

(10) المستطرف في كل فن مستطرف: شهاب الدين محمد بن أحمد بن منصور الأبشيهي أبو الفتح (ت 852هـ)، ص128، ط1/ 1419هـ، عالم الكتب- بيروت.

(11) الظِّئْر: المُرْضِعَةُ غَيرَ ولَدها، ويقَعُ عَلَى الذَّكَر والأُنْثَى، ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: ج3، ص154.

(12) صحيح مسلم: كتاب الفضائل، بَابُ رَحْمَتِهِ صلى الله عليه وسلم الصِّبْيَانَ وَالْعِيَالَ وَتَوَاضُعِهِ وَفَضْلِ ذَلِكَ، ح(2316).

(13) شرح النووي على صحيح مسلم= المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676هـ)، ج15، ص76، ط2/ 1392هـ، دار إحياء التراث العربي- بيروت.

(14) سنن أبي داود: أول كتاب الأدب، باب في الرَّحمة، (4943)، وهو حديث (إسناده صحيح) كما قال في التحقيق.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة