الرضا والتسليم لله
من نعم الله الكبرى على المؤمنين توفيقه إياهم للإيمان بقضاء الله وقدره، وهذا من أركان الإيمان وأصول الاعتقاد، والإيمان بالقدر هو باعث التوكل وأصل التسليم لله تعالى، والمعين على الرضا بأقداره لدى المؤمنين.
والمؤمن ينظر إلى هذه الدنيا بعينين: إحداهما عين الشكر والأخرى عين الصبر، وذلك لأن الحياة دار بلاء وأغيار، يتقلب المرء فيها بين صحة ومرض، وفقر وغنى، واجتماع وافتراق كما قال الشاعر:
ثمانيةٌ تجري على الناس كُلِّهم ولا بد للإنسان يلقى الثمانية.
سرور وحزن واجتماع وفرقة وعسر ويسر ثم سقم وعافية.
فيرى المؤمن نعم الله العميمة بعين الشكر والمحبة، ويرى بعين الصبر ما نزل به من شدة وبلاء مصحوبة نظرته تلك بروح الرضا والتسليم، وحينئذ تغشاه السكينة الربانية، قال سبحانه: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {22} لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد).
والذين ينتظرون من الحياة أن تسير وفق رغباتهم على وتيرة النعم وحدها دون بلاء وشدة غير سديدي النظر والفهم لأنهم لم يفهموا عن الله تعالى مراده، وسيجزعون ويقنطون عن وقوع ما يخالف رغباتهم وأهوائهم.
بين الرضا والصبر والتسليم
من الواجب على المسلم معرفة ما يجب عليه وما يندب في حقه حتى يلزم أحكام الله تعالى في حياته، فما الواجب من هذه الأخلاق الثلاثة «الرضا والصبر والتسليم»؟
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/31-32): قالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: هَلْ يَجِبُ الرِّضَا بِالْمَرَضِ وَالسَّقَمِ وَالْفَقْرِ، وَالْعَاهَةِ وَعَدَمِ الْعَقْلِ؟
قَالَ الْقَاضِي: لَا يَلْزَمُ، وَقِيل: بَلَى. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ تَعَالَى كَالْأَمْرَاضِ وَنَحْوِهَا قَالَ: فَأَمَّا مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ فَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا إذْ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي كُفْرٌ وَعِصْيَانٌ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا الْوَاجِبُ الصَّبْرُ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) (الحجرات: 15) .
فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ رَيْبًا عِنْدَ الْمِحَنِ الَّتِي تُقَلْقِلُ الْإِيمَانَ فِي الْقُلُوبِ، وَالرَّيْبُ يَكُونُ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ بِخِلَافِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعِلْمِ فَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِالْيَقِينِ إلَّا مَنْ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ أَوْ الْخَوْفَ أَوْرَثَهُ جَزَعًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ يَقِينٍ".
وهذا فقه عميق لمعاني الإيمان وفروق دقيقة في فهم تلك المعاني، فالرضا ليس بواجب وإن كان من كمال الإيمان وزينة المؤمن لا شك وبخاصة عن المصائب، والواجب هو الصبر، مع إدراك الفرق في حالات الرضا المذكورة، غير أنه مما ينبغي التأكيد عليه أن التسليم للقدر الإلهي لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب في دفع القدر بالقدر، وتحري مواقع رضا الرحمن وأمره وتجنب مناهيه.
فهذا التسليم والرضا مع كونه مبعث سكينة وأمن وطمأنينة إلا أنه لا يكون كذلك إلا إذا أحيط بفهم سنن الله تعالى في كونه حتى لا تتحول معاني الاعتقاد إلى عامل كسل أو سبب خمول وقعود وتخلف.
لماذا نسلم لأمر الله تعالى ونرضى بأقداره؟
نسلم لله تعالى ونرضى بقضائه لأن ذلك أولاً من مقتضيات الإيمان ومن معاني ومقتضيات قول المسلم صباحاً ومساء «رضيت بالله رباً»، وثانياً لأن المسلم يوقن في حكمة الله تعالى في قدره، وأن فعل الله في الخلق كله مصلحة وخير أدركنا تلك الحكمة أو غابت عنا.
وثالثاً لأن الله تعالى لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وكذلك لقصور علمنا وعدم إحاطتنا بكثير من الأشياء، وأخيرا لعظم الأجر والمثوبة المترتبة على التسليم والرضا ومن أدلة ذلك ما رواه الترمذي عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم، فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد».
ماذا لو لم نصبر أو نسلم لله؟
أقدار الله نافذة لا محالة سواء أصبر لها الخلق أم جزعوا، سلموا بها ولها أم لم يسلموا، والمسلم مستسلم لقضاء الله تعالى راض بقدره ليحصل الأجر وينال الثواب الأخروي والسكينة في الدنيا، ولعلمه أن جزعه وعدم تسليمه لا فائدة منه ولا يترتب عليه إلا فقدان إيمانه وذهاب أجره، وفوق ذلك ينفذ فيه قدر الله رغم أنفه، فكان من العقل والإيمان التخلي بالرضا والتسليم على الوجه الذي قررناه.
ومن أجمل ما قرأت من قول الشعراء في التسليم وثمراته ما قاله العلامة القرضاوي رحمه الله:
دخلت مرة أحد المساجد في مدينة إسطنبول، فوجدت فيه بيتين من الشعر كتبا بخط جميل، فحفظتهما. يقول الشاعر:
فبحقه لأسلمن لأمـره في كـل نازلة وضيق خناق!
موسى وإبراهيم لما سلما سلما من الإغراق والإحراق