إعداد الدعاة في الحضارة الإسلامية (26)

الصبر على البلاء

د. رمضان أبو علي

15 سبتمبر 2025

175

قال ابن الجوزي: صُبَّ في القنديل ماء، ثم صُبَّ عليه زيت، فصعد الزيت على سطح الماء، فقال الماء: أنا الذي سقيت شجرتك، فأين الأدب؟ لِمَ ترتفع عليَّ؟ فقال الزيت: لأنك بينما كنت في باطن الأرض تجري على طريق السلامة، صبرتُ أنا على العصر وطحن الرحا، وبالصبر يرتفع القدر، فقال الماء: ألا إني أنا الأصل، فقال الزيت: استُر عيبك؛ فإنك لو لامست شعلة المصباح انطفأ(1).

يكشف هذا المثال عن أثر الصبر في بلوغ الآمال وأهمية التربية عليه للناس عامة، والدعاة خاصة؛ إذ لا بد لهم من المصاعب والمتاعب، فالصبر سلاح الداعية في مواجهة الابتلاءات، وعدّته في حمل الرسالة، وزاده في طريق الدعوة الطويل، حتى يستمر فيها، قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف: 35).

مظاهر حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على الصبر على البلاء

1- الصبر على النفس:

تميل النفس إلى الشهوات والملذات، سواء كانت هذه الشهوات مادية أم معنوية، وقد حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على إلجام النفس وإلزامها الصبر، حتى وإن كان صعباً، ومن ذلك ما أورده عبدالرزاق عن سفيان الثوري أنه قال: «‌ثَلَاثٌ ‌مِنَ ‌الصَّبْرِ أَلَّا تُحَدِّثَ بِمَوْجِعِكَ، وَلَا بِمُصِيبَتِكَ، وَلَا تُزَكِّيَ نَفْسَكَ»(2).

2- تحمل البلاء مع الثبات على الحق:

ظهر هذا جلياً فيما نقل عن الإمام أحمد بن حنبل، وما شهد به الناس في عصره وتناقلته الأمة من بعده، من صبره على ما ابتلي به من الأذى في فتنة خلق القرآن، فقد ضرب المثل في التحمل وإعلان كلمة الحق وعدم المبالاة بما يلاقي في سبيل الله.

3- الصبر على المصائب:

عن هشام بن عروة قال: خرجَ عُروة بن الزبير إلى الوليد فَخَرَجت برجله آكِلَة فقطعها، وسقطَ ابنٌ له عن ظَهْرِ بَيْتٍ فوقع تحت أَرْجُل الدَّواب فقَطَّعته، فقال: لئن كنت أخذتَ لقد أعطيتَ، ولئن كنت ابتليتَ ‌لقد ‌عافيتَ(3).

الصبر سلاح الداعية في مواجهة الابتلاءات وعدّته في حمل الرسالة وزاده في طريق الدعوة الطويل

4- الصبر على الناس:

قال عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز لأبيه عمر حين ولي الخلافة: يا أبت، مالك لا تنفذ في الأمور؛ أي لا تسرع، فوالله لا أبالي في الحق لو ‌غلت ‌بي ‌وبك ‌القدور، قال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة(4).

5- التواصي بالصبر:

حرص العلماء في الحضارة الإسلامية على التواصي بالصبر، فقد قيل للأحنف بن قيس: ما الحلم؟ قال: أن تصبر على ما تكره قليلاً، وكان شمّر إذا عزَّى مصاباً قال: اصبر لما حكم ربّك، وعزَّى ابن السمَّاك رجلاً فقال: عليك بالصبر فبه يعمل من احتسب، وإليه يصير من جزَع(5).

6- الكتابة عن الصبر:

تكشف القراءة في كتب التزكية التي ألفها العلماء في الحضارة الإسلامية عن حث الدعاة طلابهم على الصبر والتحمل من أجل بلوغ المقاصد، وقد أفرد العلماء أبواباً للحديث عن الصبر، وضرب الأمثلة عليه، ليكون ذلك معيناً على التحلي به، ومن ذلك ما جاء في العديد من الكتب، مثل: «حلية الأولياء»، و«الفرج بعد الشدة»، و«إحياء علوم الدين».. وغيرها.

دوافع حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على الصبر على البلاء

1- خير العيش الصبر:

عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قال عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه: وَجَدْنَا ‌خَيْرَ ‌عَيْشِنَا ‌الصَّبْرَ(6)؛ يعني ما طابت الحياة إلا بالصبر، مع ما فيها من المنغصات والشدائد، فالصبر هو العمل القلبي الذي تطيب معه الحياة ولا تطيب بغيره، وفي رواية عن الفاروق أنه قال: «إِنَّ‌‌ أَفْضَلَ عَيْشٍ أَدْرَكْنَاهُ بِالصَّبْرِ، وَلَوْ أَنَّ الصَّبْرَ كَانَ ‌مِنَ ‌الرِّجَالِ ‌كَانَ ‌كَرِيمًا»(7).

وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه اللَّه إلا لعبد كريم عنده، وقال عمر بن عبدالعزيز: ما أنعم اللَّه على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر، إلا كان ما عوّضه خيراً مما انتزعه منه، وقال ميمون بن مهران: ما نال أحد شيئاً من جسيم الخير نبيٌّ فما دونه إلا بالصبر(8)، وقال عون بن عبدالله: ‌الخير ‌الذي ‌لا ‌شر ‌معه الشكر مع العافية، والصبر مع المصيبة(9).

2- الصبر دليل على الإيمان:

روى الطبراني بسند صححه الألباني عن عبدالله بن مسعود أنّه قال: «الصّبر نصف الإيمان»، وفي مصنف عبدالرزاق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَوْضِعِ ‌الرَّأْسِ ‌مِنَ ‌الْجَسَدِ، إِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ تَيَبَّسَ مَا فِي الْجَسَدِ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ».

3- سمو مكانة الصابرين:

قال سليمان بن القاسم: كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر، قال اللَّه تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10)(10)، وقال أبو عليّ الدّقّاق: فاز الصّابرون بعزّ الدّارين، لأنّهم نالوا من الله معيّته، فإنّ الله مع الصّابرين(11).

4- بلوغ الصابرين الإمامة في الدين:

قال ابن تيمية في التعقيب على قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24): بالصَّبْر وَالْيَقِين تُنَالُ ‌الْإِمَامَةُ ‌فِي ‌الدِّينِ(12)، وقَالَ سفيان بن عيينة في تفسير الآية أيضاً: لَمَّا أَخَذُوا ‌بِرَأْسِ ‌الْأَمْرِ ‌صَارُوا ‌رُؤُوساً(13).

5- تحصيل محبة الله:

أوضح الله تعالى محبته للصابرين في قوله: (وَاللَّهُ ‌يُحِبُّ ‌الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146)، وقال الحسن: ما جرعتان أحب إلى اللَّه من جرعة ‌مصيبة ‌موجعة ‌محزنة ردها صاحبُها بحسن عزاء وصبر، وجرعة غيظ ردها بحلم(14).

من ثمرات الصبر الثبات على الدعوة وكسب القلوب بالحلم والتحمل والقدرة على مواجهة الشبهات والشهوات

6- تحصيل الثمار الدعوية للصبر:

يفيد الداعية من الصبر عدة ثمرات، منها: ثباته على دينه ودعوته مهما كانت الضغوط، وكذلك ثبات مدعويه، ثم كسب قلوب الناس بالحلم والتحمل، ويضاف إلى ذلك القدرة على مواجهة الشبهات والشهوات، وتحقيق النصر والتمكين، إذ الصبر من أسباب الفلاح، قال تعالى: (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ) (الأنفال: 65).





_________________

(1) المدهش، ص 176.

(2) تفسير عبدالرزاق (2/ 208).

(3) تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال (6/ 345).

(4) العقد الفريد: ابن عبد ربه الأندلسي (1/ 39).

(5) عدة الصابرين: ابن القيم (1/ 178).

(6) فتح الباري: ابن حجر العسقلاني (11/ 303).

(7) الصبر والثواب عليه: ابن أبي الدنيا، ص 24.

(8) عدة الصابرين: ابن القيم (1/ 177).

(9) تسلية أهل المصائب: شمس الدين المنبجي، ص 17.

(10) عدة الصابرين (1/ 177).

(11) الرسالة القشيرية (1/ 325).

(12) مجموع الفتاوى (3/ 358).

(13) تفسير ابن كثير (6/ 372).

(14) عدة الصابرين (1/ 183).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة