الصحة النفسية.. بين الإيمان وضغوطات الحياة

د. محمد السبأ

26 نوفمبر 2025

93

الصحة النفسية في الإسلام جزءٌ لا يتجزأ من اهتمام الشريعة الإسلامية التي جاءت بحفظ الضرورات الخمس؛ حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، ويستمد هذا المفهوم شمولاً تابعاً لخصائص الإسلام الذي يتميز بالشمول، فتعني إلى جانب الخلو من الأمراض؛ السلوك والمشاعر والتفكير والجوانب الروحية، ويؤكِّد أهمية التوازن في حياة المرء حتى ينعم برضا الله إلى جانب السعادة في الحياة الدنيا والفوز في الحياة الأخرى.

مكانة الإيمان في استقرار النفس وطمأنينتها

الإيمان من أهم مصادر الصحة النفسية وطمأنينة النفس، وبالتالي يواجه المؤمن تحديات الحياة المختلفة بأمان واطمئنان، موقناً أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان؛ (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: 2)، ومدركاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ»(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمناً في سربه، مُعافيً في جسده، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»(2).

ومن المعلوم أن قوة الإيمان بالله تساعد في تقليل مشاعر القلق والاكتئاب، وتعزِّز قدرة صاحبها على مغالبة نواميس الحياة وسننها، وتجعله يتكيَّف مع الأزمات، ويبحث في إطار ما مكَّنه الله عن الحلول التي ترضي ربه وتسعِد نفسه، مستعيناً بالله ثم بما لديه من قِيَم تعينه على ذلك؛ وأهمها الصبر والرضا، ومتمسكاً بما حثَّه الله عليه من وسائل؛ أهمها الدعاء والذكر؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).

هدي النبي في مواجهة التحديات والشدائد

تمر على الإنسان العديد من التحديات وضغوطات الحياة، ويصل الأمر بالبعض إلى مراحل متقدمة من اليأس والقنوط، إلَّا أن المؤمن ينعم بالتوجيه الرباني؛ (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم خير الواثقين بالله وخير المتفائلين، يحسن الظن بربه ويوقن بلطفه وكرمه، وكان دائماً يبشِّر أصحابه بالخير والفرج.

فهذا الصحابي خباب بن الأرت يقول: شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: «قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»(3).

وفي رحلة الهجرة يقول له صاحبه الصدِّيق: لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، فيرد عليه: «ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟»(4)، وقد أثبت الله هذا الموقف في كتابه مع بيان النتيجة العظيمة؛ (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).

أمثلة من حياة الصالحين على أثر الإيمان في تجاوز المحن

يسير المؤمن في هذه الحياة حسب القاعدة الإلهية (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح)، ونعلم قصة الثلاثة الذين انطبقتْ عليهم الصخرة، فأنجاهم الله حينما سألوه بأفضل أعمالهم، وقد قال أحد الصالحين: إِن لم يكن لنا خير فِيمَا نكره، لم يكن لنا خير فِيمَا نحب(5).

وذكر الْمَدَائِنِي قال: نزلتُ بحي من كلْب مُجدِبين، قد توالت عَلَيْهِم السنون، فَمَاتَتْ الْمَوَاشِي، ومنعت الأَرْض من إِخْرَاج النَّبَات، وَأَمْسَكت السَّمَاء قطرها، فَجعلتُ أنظر إِلَى السحابة ترْتَفع من نَاحيَة الْقبْلَة سَوْدَاء مُتَقَارِبَة، حَتَّى تطبق الأَرْض، فيتشوَّف لَهَا أهل الْحَيّ ويرفعون أَصْوَاتهم بِالتَّكْبِيرِ، ثمَّ يعدلها الله عَنْهُم مرَارًا، فَلَمَّا كثر ذَلِك خرجت عَجُوز مِنْهُم، فنادتْ بأعلى صوتها: يَا ذَا الْعَرْش، اصْنَع كَيفَ شِئْت فَإِن أرزاقنا عَلَيْك، فَمَا نزَلتْ من موضعها حَتَّى تغيَّمت السَّمَاء غيماً شَدِيداً، وأُمطِروا مَطَراً كَاد أَن يغرقهم، وَأَنا حَاضر(6).

وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعداً فقال لي أهلي: قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به، قال: فتوضأت وكان لي صديقٌ لا يزال يقسم عليَّ بالله إن يكن بي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد، فذكرتُ ما جاء في الأثر: «مَن عرضتْ له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل»، قال: فدخلت المسجد فصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد، أُفرغ عليَّ النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق، أتدل العباد على الله ثم تنساه؟ قال: فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني به ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله، وانصرفت إلى المنزل، فوجدت الذي أردت أن أقصد قد حرَّكه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم(7).

نصائح عملية لتعزيز الصحة النفسية بالإيمان

الإنسان المؤمن ككل البشر، يمتلك ما يمتلكه الناس من مشاعر وأحاسيس وروح وبدن وعقل ونفس، ولكن ما يميزه هو ما وَقَر في قلبه وأحسنَه من عمله وسار عليه في حياته من مُعتقدات ومنهج وسلوك، ولهذا فإن معالجته لما يمر عليه من تحديات، وخصوصاً ما يستهدف نفسيَّته؛ تكون معالجات موفَّقة، مصدرها كتاب ربه وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن الوسائل العملية التي يتخذها معينة له ما يلي:

1- الدعاء: الدعاء هو العبادة، ولو لم يكن منه إلا أنه يقرِّبك من مولاك لكفى، فكيف وفيه من الفضائل والبركات الشيء الكثير؟ والمؤمن يلتزم توجيه مولاه؛ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر: 60).

2- ذكر الله كثيراً: وهو من أعظم الوسائل الجالبة للمنافع والخيرات والدافعة للمضرات والمصائب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «ألَا أُخبرُكم بخَيرِ أعمالِكم، وأزْكاها عندَ مِليكِكُم، وأرْفَعِها لدَرَجاتِكم، وخيرٍ لكم من إعْطاءِ الذَّهَبِ والوَرِقِ، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم فتَضرِبوا رِقابَهم ويَضرِبونَ رِقابَكم؟ ذِكْرُ اللهِ عزَّ وجلَّ»(8).

3- قراءة القرآن والتأمل في معانيه: كتاب الله من أجلّ القُربات وأعظم الطاعات، وهو كلام الله الذي قال فيه سبحانه: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) (فصلت: 44).

4- اللجوء إلى الله: المؤمن يلجأ أول ما يلجأ إلى «الأول» و«الآخر»، ويوقن أن كل شيء بيده سبحانه، ويدرك جيداً قوله تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل: 62).

5- العمل الصالح: وقد أمر الله به عباده، وبه يكسبون خير الدارين، والمؤمن يجتهد لما حثه الله عليه فيه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).




____________________

(1) السلسلة الصحيحة (147).

(2) المرجع السابق (2318).

(3) رواه البخاري (6943).

(4) المرجع السابق (3653).

(5) الفرج بعد الشدة، ج1، ص145.

(6) المرجع السابق، ص286.

(7) دروس للشيخ إبراهيم الدويش، ج7، ص20.

(8) مسند أحمد (27525).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة