الصراع الداخلي ودوره في زعزعة الكيان الصهيوني

الصراع بين اليهود الشرقيين والغربيين ليس وليد العصر الحديث، أو نشأ مع
قيام الكيان الصهيوني، بل هو موجود بين الطائفتين منذ القرن السادس عشر حيث
التنافس والتنافر، وكان اليهود البرتغاليون والإسبان في البداية يعتبرون أنفسهم
أجل قدرًا وأعرق نسبًا من الأشكناز، فلا يخالطونهم في معابدهم ولا يزوجون بناتهم
بهم، وقد استمرت التفرقة بينهم حتى القرن السابع عشر، حيث كانت الطبقات المرفهة من
اليهود لا تزال من طائفة السفارديم وحدها.
وفي القرن الثامن عشر فقط بدأ بعض الأفراد والمجموعات اليهودية من أوروبا
الوسطى والشرقية في الحصول على مكانة متساوية إلى جانبهم، وقد انعكست الصورة الآن
في الكيان الصهيوني، حيث ينظر اليهود الغربيون إلى اليهود الشرقيين القادمين من
اليمن وأنحاء أفريقيا والهند وإيران، نظرة استخفاف واستهانة، لتفوقهم عليهم في
المستوى الثقافي والاجتماعي(1).
مسوغ الاستعلاء عند اليهود الأشكناز
إن اليهود الغربيين يعتبرون أنفسهم هم الذين أقاموا دولة «إسرائيل»، وقد
ساعدت عدة عوامل على جعلهم الطبقة الفوقية في المجتمع «الإسرائيلي»، من بينها:
1- ولادة الحركة الصهيونية بين أوساط الأشكناز وتأصلها في نفوسهم كرد فعل
لسياسة الاضطهاد والتميز التي كان يعانيها هؤلاء في معظم الدول الأوروبية، كما أن
غالبية حكماء الصهيونية الذين حضروا المؤتمر الصهيوني الأول من الأشكناز، الذين
يعتقد بأنهم هم من وضعوا بروتوكولات حكماء صهيون.
2- تزعم أبناء الأشكناز لكافة التنظيمات السياسية واحتلالهم لكافة مراكز
القوى قبل وبعد قيام دولة «إسرائيل» بسبب شعورهم بالتفوق الحضاري على أبناء
الطوائف الشرقية.
3- التفوق العددي لطائفة الأشكناز عند قيام «إسرائيل»، فقد كان هؤلاء
حينذاك يشكلون أغلبية السكان(2).
من هنا يمكننا القول: إن المجتمع «الإسرائيلي» مجتمع عنصري بامتياز، حيث
يشعر اليهود الغربيون أنهم أرقى من اليهود الشرقيين، وتحول الأمر لصراع طبقي بين
الطائفتين.
«إن تفرقة اليهود بين بعضهم نتاج طبيعي لعقول امتزجت فيها فكرة الاصطفاء،
فكل فرقة من فرق اليهود تعد نفسها أنها هي الفرقة المختارة من الله، لتكون هي
المصدر الأول كالمشرع لباقي الفرق، فيهود الأشكناز يعدون أنفسهم سادة القوم، وأما
الباقون فهم رعاع ليس لهم نفس الحقوق التي تمتع بها الأشكناز بصفاتهم التي تفوق
باقي الفرق، كباقي الفرق يعدون أنفسهم أنهم الشعب المختار، فانشغلت كل فرقة تجد
لنفسها المكان الرحب بين الفرق الأخرى، فحري بمن كانت هذه صفاته بين من هم من
مجتمعه، أن يكون أكثر شراسة وضراوة مع غيره»(3).
حتى طائفة الفلاشا، رغم معاناتهم، فإن العنصرية مرتكز عقدي عندهم، يقول
عنهم د. حسن ظاظا: «وهؤلاء من زنوج أمريكا المنحدرين من أصل أفريقي، اعتنقوا
الديانة ويدعون أنهم ينحدرون من اليهود الإثيوبيين، وأن الإله قد منح لهم ولذريتهم
أرض الميعاد؛ لذا فإن الأرض تخصهم وحدهم»(4).
العنصرية الرسمية ضد اليهود الفلاشا والهنود
الدولة قامت باتخاذ تدابير عنصرية مع يهود الفلاشا؛ فقامت بعزلهم عن باقي
المجتمع بحجة الأمن، بالإضافة إلى العنصرية في التعامل، والوظائف الحكومية،
والخدمات المقدمة لهم، وبالطبع نتيجة لذلك لن يكون هناك انتماء (هُوية) لهؤلاء
الفلاشا، وكما يبدو، نستطيع أن نستنتج أن المجتمع «الإسرائيلي» عنصري، وبلا هُوية
محددة، ولا تمارس الدولة أعمالًا تؤهل حقًا لتوحيد الهُوية «الإسرائيلية»(5).
بل تعدت العنصرية حدود العقل لتظهر في عمليات حكومية إجرامية تستهدف
الأفارقة، فقد ظهر تقرير عن قيام الحكومة «الإسرائيلية» بإجراء عمليات على 13 ألف
امرأة يهودية أفريقية بهدف جعلهن عقيمات دون أخذ الرأي أو الإذن منهن، وتذكرنا هذه
الجريمة بإجراءات نازية تمت إبان الحرب العالمية الثانية، وهنالك العديد من القصص
عن قتل بعض اليهود الفلاشا بالخطأ، كما تقول الحكومة «الإسرائيلية»، آخرها قتل
معاق ذهني من أصل إثيوبي من شرطي «إسرائيلي» فقط لحمله سكينًا(6).
وكذلك تعاني الطائفة الهندية من ذات الأمر، تقول هذه الطائفة: هاجرنا إلى «إسرائيل»
اعتقادًا منا أنا سنجد الجنة الخضراء والحرية، ولكننا وجدنا العكس، فالمساكن عبارة
عن خيمة خشبية ولا مدارس لأبنائنا، بعنا حلي نسائنا، ولم نجد عملاً، وأضافت
الطائفة: أيها الناس، لا تسمعوا هذه النداءات الكاذبة فهناك تفرقة بين الأشكناز
ويهود الشرق(7).
آثار الانقسام الطبقي على الكيان الصهيوني
نتج عن هذا الانقسام الطبقي الحاد عدة نتائج، أبرزها:
1- تهديد المجتمع «الإسرائيلي» بالتفكك:
الصراع الطبقي أصبح من أهم المشكلات التي يواجهها اليهود، ويهدد هذا الكيان
بالتفكك والانهيار، فهم وإن بدوا متماسكين في الظاهر، فإن العداوات والحسد متأصل
في نفوسهم، فهناك الكثير من التناقضات تنخر كالسوس في المجتمع «الإسرائيلي»، منها
مسألة اليهود الشرقيين والغربيين (السفارديم والأشكناز)، ومنها مسألة اليهود
السود، ومنها مسألة العلمانيين والمتدينين، حيث إن هذه التناقضات من الممكن أن
تؤدي إلى سقوط المجتمع «الإسرائيلي»، وستؤدي حتمًا إلى سقوطه بإذن الله، وعلى
المسلمين أن يستغلوا هذه الظاهرة استغلالاً جيداً(8).
إن ضعف الارتباط والهوية داخل «إسرائيل» يزداد يومًا بعد يوم، ولن يشعر
المضطهدون المهمشون بأي انتماء لهذا الكيان الذي يقنن للعنصرية ضدهم، يقول د.
عبدالوهاب المسيري: «إن أزمة اليهود الشرقيين هي عن حق بؤرة أزمات المجتمع
الصهيوني، فهي تعبر عن أزمة الهوية»(9).
ولهذا لن نكون مبالغين إذا قلنا: إن المجتمع «الإسرائيلي» متصدع من داخله.
2- الانقسام الديني داخل «إسرائيل»:
وليس أدل على ذلك من أن الانقسام بين طوائفهم يصل إلى العقيدة والدين، فهو ليس
بالانقسام السطحي، ولا حتى بالانقسام الذي يقف عند حدود الاختلاف الحضاري والثقافي
فحسب، بل يتعداه بالفعل إلى انقسام في النظرة إلى الدين اليهودي نفسه، وفهم تعاليم
هذا الدين، ولعل خير مثال على ذلك يتضح من وجود منصبين لكبار الحاخامات، أحدهما
لكبير الحاخامات الأشكناز، والثاني لكبير الحاخامات السفارديم(10).
3- قيام حركة الفهود السود(11) في «إسرائيل»:
ومن الآثار العنيفة للانقسام الطبقي والتمييز العنصري ضد يهود الشرق لحساب يهود
الغرب قيام حركة الفهود في «إسرائيل»؛ احتجاجًا على ما يلقونه من التفرقة.
ولدت هذه الحركة وسط الأحياء الفقيرة في مدينة القدس، ثم ترعرعت وكبرت
وامتد تأثيرها إلى كافة الأحياء الفقيرة في مدن «إسرائيل» وقراها، وأحدثت ضجة على
المستويين الرسمي والشعبي أكثر مما أحدثته أي حركة سياسية في «إسرائيل» منذ
تأسيسها، كما جعلت الكثيرين يتخوفون من نشوب حرب أهلية في «إسرائيل».
إن ظاهرة الفهود السود هي في الحقيقة رد فعل للتمييز العنصري الذي يمارس في
«إسرائيل» ضد أبناء الطوائف الشرقية التي تشكل أكثر من نصف سكان «إسرائيل».
وقد أدى هذا التكوين الطبقي للمجتمع «الإسرائيلي» الذي تحتل فيه الطائفة
الأشكنازية معظم المرافق الاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن مراكز القوى السياسية،
إلى اتساع الهوة بينهم وبين أبناء الطوائف الشرقية في كافة المجالات، الأمر الذي
أدى في نهاية الأمر إلى خلق مشكلة الفقر في «إسرائيل» بين الطبقات المسحوقة من
أبناء الطوائف الشرقية، ومن وسط هذه العائلات الشرقية المسحوقة انبثقت حركة الفهود
السود في «إسرائيل»، كتحدٍّ لحالة الفقر والحرمان وللطبقية الفوقية المتمثلة
بطائفة الأشكناز(12).
تبنت هذه الحركة في بداية عهدها أسلوب التظاهرات المتتالية في الشوارع وعقد
الاجتماعات والقيام بإضرابات، وأخذت الشرطة على عاتقها التصدي لها بكل قوة؛ الأمر
الذي جعل هذه التظاهرات تأخذ طابع العنف والتحدي، وقد سلكت قوات الأمن سبيل الشدة
في معالجتها للأمور وبالتالي ساعدت على تعزيز حركة الفهود(13).
جاء في كلمة لأحد زعماء الفهود السود في تل أبيب: أيها الفهود، لا يوجد ما
نخسره، يريدون تحويلنا إلى عبيد، توجد في هذه البلاد فئة عليا تتحكم فينا باسم
دولة اليهود.
وجاء في أحد مناشير الحركة على شكل بيت شعر: وعدونا في المغرب بأننا نخرج للحرية،
ولكن اتضح أنهم دفعونا إلى العبودية(14).
فما أقسى العيش في مجتمع تتباين فيه المشاعر تباينًا شديدًا؛ مشاعر السادة
ومشاعر العبيد!
______________________
(1) العرب واليهود في التاريخ، أحمد سوسة ص338.
(2) ظاهرة الفهود السود، عبد العظيم محارب، ص 143، وانظر: مقالًا بعنوان «المجتمع
الإسرائيلي من الداخل: التركيبة السُكَّانية والانقسامات الداخلية»، إبراهيم أبو
جازية، موقعhttps://www.sasapost.com/israeli-society/.
(3) موقف اليهود من الآخر من خلال التلمود البابلي، هالة مصطفى عبد القادر،
ص 96.
(4) أبحاث في اليهودية، د. حسن ظاظا، ص 195.
(5) مقال بعنوان «المجتمع الإسرائيلي من الداخل: التركيبة السُكَّانية
والانقسامات الداخلية»، مرجع سابق.
(6) المرجع السابق.
(7) التفرقة العنصرية، السيد محمد عاشور، ص 47.
(8) معالم في الطريق إلى تحرير فلسطين، إبراهيم المقادمة، ص 26، مؤسسة
اليم، 2004م.
(9) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المسيري، الموجزة (2/ 503).
(10) العقيدة اليهودية وأثرها على الأحزاب «الإسرائيلية» اليمينية
المعاصرة، عماد السيد، ص 227.
(11) هي عبارة عن حركة معارضة شعبية أطلقها أبناء الأحياء السكنية الفقيرة
في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وخصوصا في تل أبيب والقدس، تعبر عن الفقر
والحرمان لقطاع كبير من أبناء الطوائف الشرقية.
(12) ظاهرة الفهود السود، عبد الحفيظ محارب، ص 142، 143 بتصرف يسير جدًا.
(13) المرجع السابق، ص 146 - 147.
(14) جريدة معاريف (5/4، 15/4/
1971م) نقلًا عن ظاهرة الفهود السودـ عبد الحفيظ محارب، ص 148.