معالم على الطريق

الضرورات يجب أن تبيح المحظورات

يحسن بنا قبل أن نتكلم في الضرورات، أن نلقي الضوء -إسلامياً- على معانيها وأحكامها، ونستشف ما يحيط بها من لبس، فنقول:

الضرورات عند علماء المسلمين هي: الأمور التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على الفساد والتهاريج، وفوت الحياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم، والرجوع إلى الخسران المبين.

والضرورات هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل والعرض، والمال وتترتب الأولويات فيها من الأعلى إلى الأدنى.

وأقل من الضرورات الحاجات وهي الاحتياج، وتطلق على ما يفتقر إليه لرفع الضّيق والحرج والمشقّة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين الحرج والمشقة.

والقانون ينبغي أن ينبثق من مصالح الأمة، ورفع المشقة والمحافظة على الإنسان وعلى ضروراته وحاجاته، حتى يستطيع الإنسان أن يعيش في الحياة، وأن يستقر فيها بغير عسر ولا إرهاق، ومن هذا المنطلق تزال العقبات وترفع المظالم والمحن بقوة القانون وحراسة الأمن، أما إذا هدمت الضرورات وحُذرت الحياة الكريمة في أي مجتمع فإنه يستحيل فيه الاستقرار، ويتعرض للهرج والمرج والفوضى، ونحن كعرب وكأمة لها كيانها يجب أن تعيش حسب هذه الأصول التي شرعها الله سبحانه واستقرت في ديننا.

أما أن نفتقد هذا في مجتمعاتنا وأممنا وأوطاننا، فإننا سنعيش في ضنك، وصدق الله ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ﴾ (طه:124-126).

واليوم يعيش إخواننا في غزة، وقد فقدوا الضرورات والحاجات.. وجاعوا وحوصروا وظلموا، واحتلت مقدساتهم، وضاع أمانهم العقدي - وهو ضرورة - ورجمتهم الصواريخ، وقذفت الطائرات الأوطان والآمنين، ومزقت أشلاء الخائفين المرتعدين.. والشيوخ والأطفال والنساء العزل بالصواريخ، ثم يمنعون الدفاع عن أعراضهم وأموالهم.. أليست هذه ضرورات كبرى؟

وبعد ذلك يضرب الحصار الظالم عليهم حتى يتضوروا جوعًا ويتعروا أجسادًا، وتسلب منهم كل سبل الحياة، ثم بعد ذلك تجيش الشعوب غربية وشرقية ضدهم، ويتهمون بما ليس فيهم، وتضرب المعاهدات وتؤخذ المواثيق ضدهم، وتشارك فيها سلطاتنا التي من جلدتنا، فهذا شيء فوق احتمال البشر، وإذا صاح المظلوم أو جأر الجائع قيل له اخفض من صوتك، وترفق في استجدائك ومسكنتك، وتأدب في حديثك حتى تمنح لقمة من خبز أو شربة من ماء، ومع هذا فلا شيء يجدي أو يغني.

فشلت خطة الكلام فهيا          

                               نسمع الرأي من فم الصنديد

لا ترد الحقوق في مجلس الأمن 

                                   ولكن في مكتب التجنيد

الشكاوى إلى المجلس لغو  

                            وأزيز الرصاص بيت القصيد

إن ألفي قذيفة من كلام

                             لا تساوي قذيفة من حديد

إن ثورة الجياع اليوم أمام سمع العرب وبصرهم طامة كبرى على الأمة، خصوصًا سلطاتها التي تشارك العدو في قتل مئات الآلاف التي تتضور جوعًا، وتكاد تهلك نفسًا وعقلًا.. والصبر على ظلم العدو، وبغي الصديق، وحصار الأخ هو الكارثة بعينها، كما أنها رجوع إلى عصور الوحشية والهمجية التي سيصطلي بنارها المشاركون فيها، المتسببون لها، وديننا الحنيف قد جاء بالأصول التي لو سار عليها المسلمون لسعدوا، وبالقواعد التي تعالج هذه الأزمات، وهذا لم يأت به شرع أو قانون غير الإسلام الحنيف، ومن هذه القواعد:

1- المشقة تجلب التيسير: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: ١٨٥)، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج: ۷۸).

2- إذا ضاق الأمر اتسع، ومعناها أنه إذا ظهرت مشقة في أمر يرخص فيه ويوسع.

3- الضرورات تبيح المحظورات: وهي في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا اضطررْتُمْ إِلَيْهِ﴾ (الأنعام: ١١٩).

وهذه تدل على أن الممنوع شرعًا يباح عند الضرورة، وهذه القاعدة تتعلق بقاعدة «الضرر يزال»، ومن فروعها: جواز فعل المحرم عند الضرورة، ومبنى ذلك وبيانه - كما يقول صاحب الموافقات: «إن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الضرورات الخمس المعروفة، واعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيًا عليها، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود».

ونستطيع بعد ذلك أن نتساءل: الضرورات أم القوانين الجائرة التي تريد أن تقتل المظلومين والمقهورين، وتقر اتفاقيات محاربة الفلسطينيين في أرزاقهم وضروراتهم؟ وهل ينبغي الوفاء بها؟

 

لقد ظل الشعب الفلسطيني حبيس القطاع بظلم بيِّن حتى نفدت أقواته، وتعرت أجساده ومنع عنه الدواء والكهرباء من مصحات المرضى، وبات الكثيرون تحت هذا الحصار الخانق فهل هذا شيء يمت إلى الرحمة أو الإنسانية؟ أهذا شيء يجوز من إخوة لهم تربطهم العقيدة والإيمان والوطن الواحد بوشائج؟

وهل يحاسب الجائع على بحثه عن لقمة العيش؟ وكان واجب الأمة إطعامه لا منع الطعام عنه ووضع الحواجز دونه! إن ذلك لعظيم.

ولهذا روى الطبري أن من أسباب كشف الضر عن أيوب عليه السلام قوله: «اللهم إنك كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان، وأنا أعلم مكان جائع فأصدقني»، فنادى مناد من السماء: «أن صدق عبدي»، ولما بلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنه اشترى خاتمًا بألف درهم كتب إليه يقول: «إنه بلغني أنك اشتريت خاتمًا بألف درهم، فبعه وأطعم منه ألف جائع، واشتر خاتمًا من حديد بدرهم واكتب عليه: «رحم الله امرأ عرف قدر نفسه».

وقال صلى الله عليه وسلم «ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره جائع».

إن هؤلاء الجياع لهم كرامة عند الله تعالى، وكان يستسقي بهم، وكان من دعاء العباس لإنزال المطر: «اللهم إنا نشكو إليك جوع كل جائع، وعري كل عار، وخوف كل خائف» فيسقون، واليوم نتقرب إلى أعدائنا بمنع إخواننا من الطعام وقفلنا للحدود في وجوههم، وحصارهم الخانق ومنعهم السلاح للدفاع عن أنفسهم وأرضهم، فهل تتدارك أمتنا أمرها قبل فوات الأوان: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ (غافر:52).. نسأل الله السلامة.. آمين [1]



[1] - مجلة المجتمع، العدد (1787)، 24 المحرم 1429هـ / 2 فبراير 2008م – ص39.  


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة