العز بن عبدالسلام.. قصة العالِم الذي باع الأمراء وتحدى الملوك

كاتب المدونة: الطيب
أديب
هو أبو محمد عز الدين عبدالعزيز بن عبدالسلام
بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن مهذب السلمي، المغربي الأصل، ولد في دمشق سنة
578هـ، وعاش فيها وبرز في الدعوة والفقه، وتوفي سنة 660هـ في مصر.
نشأته وطلبه للعلم
ترعرع في كنف أسرة متدينة فقيرة، وتلقى
العلم في سن متأخرة، وتفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر، وقرأ الأصول على الشيخ
سيف الدين الآمدي وغيره، وسمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن عساكر حتى بلغ
درجة عالية من العلم وبرع في الإفتاء والخطابة والقضاء والتدريس والتأليف، وبلغت
مؤلفاته 30 مؤلفًا.
وبرع الشيخ في شرح دروسه لتلامذته وتميز
بأسلوبه السهل وميله للدعابة وذكر النوادر والطرف حتى قصده طلاب العلم من كل صوب
وتعلق به الناس خطيبا مفوها على منابر دمشق.
مواجهة الخيانة في دمشق
عندما وقع حاكم دمشق الصالح إسماعيل
معاهدته مع الصليبين متحالفاً معهم وخذل ابن أخيه الصالح أيوب حاكم مصر وتنازل لهم
عن بعض المدن المهمة، وساعدهم بالحصول على السلاح، هنا انتفض الشيخ بن عبدالسلام
وأفتى بحرمة بيع السلاح للأعداء، ولم يكتف بذلك بل أعقبها بخطبة شديدة اللهجة فوق
منبر الجامع الأموي وضح فيها عواقب الخيانة وذم تعاهد السلطان مع الإفرنج، وقطع
الدعاء للسلطان في خطبته.
وهنا ثار الصالح إسماعيل غضباً منه وأمر بعزله عن الخطابة والإفتاء، وأمر باعتقاله، ولكنه أسرع بإطلاق سراح الشيخ خوفًا من
غضبة الناس ووضعه تحت الحراسة في بيته!
موقف عزة في السجن
وخرج العز بن عبدالسلام من دمشق مغضبًا
إلى جهة بيت المقدس، وصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة أيضًا
والتقى أمراء النصارى قريبًا من بيت المقدس، فأرسل رجلاً من بطانته وقال له: اذهب
إلى العز بن عبدالسلام، ولاطِفْهُ ولايِنْهُ بالكلام الحسن، واطلب منه أن يأتي
إليّ، ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه.
فذهب الرجل إلى العز بن عبدالسلام وقال
له: ليس بينك وبين أن تعود إلى منصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه، إلا أن تأتي
وتُقَبِّل يد السلطان لا غير.
فضحـك العز بن عبدالسلام ضحكة السـاخر
وقال: يا مسكين، والله ما أرضى أن يُقَبِّلَ الملك الصالح إسماعيل يدي فضلاً عن أن
أُقَبِّلَ يده، يا قومُ أنا في واد، وأنتم في واد آخر، الحمد لله الذي عافاني مما
ابتلاكم به.
قال: إذًا نسجنك، فقال: افعلوا ما بدا
لكم، فأخذوه وسجنوه في خيمة، فكان يقرأ فيها القرآن ويَتَعَبَّد ويذكر الله تعالى.
وفي إحدى المرات كان الملك الصالح
إسماعيل قد عقد اجتماعاً مع بعض زعماء النصارى الصليبيين، كان اجتماعهم قريباً من
العز بن عبدالسلام بحيث يسمعون قراءته للقرآن، فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ؟
قالوا: نعم، فقال متفاخرًا: هذا هو أكبر قساوسة المسلمين سَجَنَّاه؛ لأنه اعترض
علينا في محالفتنا لكم، وتسليمنا لكم بعض الحصون والقلاع، واتفاقنا معكم على قتال
المصريين.
فقال له ملوك النصارى: والله لو كان هذا
القسيس عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقته!
فأصيب الصالح إسماعيل بالخيبة والذلِّ،
وكانت هذه بداية هزيمته وفشله، وجاءت جنود المصريين، وانتصرت عليه وعلى من كانوا
متحالفين معه من الصليبيين، وأفرجت عن الإمام العز بن عبدالسلام.
في مصر.. قاضي القضاة
ووصل الشيخ إلى القاهرة سنة 639هـ/ 1241م
واستقبله الصالح أيوب بما يليق به من الإكرام والتبجيل، وأسند إليه الخطابة في
جامع عمرو بن العاص، وعيّنه في منصب قاضي القضاة، والإشراف على عمارة المساجد
المهجورة بمصر.
لقب «بائع الأمراء»
قبل الشيخ الجليل منصب قاضي القضاة ليصلح
ما كان معوجًا، ولكنه أثناء قيامه بعمله اكتشف أن القادة الأمراء الذين يعتمد
عليهم الملك الصالح أيوب لا يزالون أرقاء لم تذهب عنهم صفة العبودية، والمعروف أن
الملك الصالح أكثر من شراء المماليك وأسكنهم جزيرة الروضة واعتمد عليهم في إقامة
دولته وفي حروبه، وهؤلاء المماليك هم الذين قضوا على الدولة الأيوبية في مصر
وأقاموا دولتهم التي عُرفت بدولة المماليك.
وما دام هؤلاء الأمراء أرقاء فلا تثبت
ولايتهم ونفاذ تصرفاتهم العامة والخاصة ما لم يُحرروا، فأبلغهم بذلك، ثم أوقف
تصرفاتهم في البيع والشراء والنكاح وغير ذلك مما يثبت للأحرار من أهلية التصرف،
فتعطلت مصالحهم، وكان من بين هؤلاء الأمراء نائب السلطان.
وحاول هؤلاء الأمراء مساومة الشيخ فلم
يفلحوا وأصر على بيعهم لصالح بيت المال، وبعدها يتم عتقهم ليصبحوا أحرارًا وتنفذ
تصرفاتهم، وقال لهم: نعقد لكم مجلسًا، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل
عتقكم بطريق شرعي.
ولكنهم رفضوا ورفعوا الأمر إلى السلطان
الصالح أيوب، الذي راجع الشيخ في قراره فأبى، وتلفظ السلطان بكلمة بدّت منه أغضبت
الشيخ، وفهم منها أن هذا الأمر لا يعنيه ولا يتعلق بسلطته، فانسحب الشيخ وعزل نفسه
عن القضاء، بعد أن أصبحت أحكامه عديمة القيمة وغادر القاهرة!
وما أن انتشر الخبر، حتى خرجت الأمة وراء
الشيخ العز، وأدرك السلطان خطورة فعلته، فركب في طلب الشيخ واسترضاه وطيَّب خاطره
واستمال قلبه، وطلب منه الرجوع معه، فوافق العز على أن يتم بيع الأمراء بالمناداة
عليهم.
ووقف الشيخ بهيبته ينادي على أمراء
الدولة واحدًا تلو الآخر، ويغالي في ثمنهم حتى إذا ارتفع السعر إلى أقصى غايته
وعجز المشترون قام السلطان الصالح أيوب بدفع الثمن من ماله الخاص إلى الشيخ الشجاع
الذي أودع ثمنهم بيت مال المسلمين، وكانت هذه الوقعة الطريفة سبباً في إطلاق اسم «بائع
الملوك» على الشيخ المهيب.
موقفه مع الظاهر بيبرس
وأما الظاهر بيبرس فحين استدعى الأمراء
والعلماء لبيعته، وكان من بينهم الشيخ العز، الذي فاجأ الظاهر بيبرس والحاضرين
بقوله: يا ركن الدين، أنا أعرفك مملوك البندقدار -أي لا تصح بيعته؛ لأنه ليس أهلاً
للتصرف- فما كان من الظاهر بيبرس إلا أن أحضر ما يثبت أن البندقدار قد وهبه للملك
الصالح أيوب الذي أعتقه، وهنا تقدَّم الشيخ فبايع بيبرس على الملك.
وكان الظاهر بيبرس على شدته وهيبته يعظم
الشيخ العز ويحترمه، ويعرف مقداره، ويقف عند أقواله وفتاواه، ويعبر السيوطي عن ذلك
بقوله: وكان بمصر منقمعًا، تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبدالسلام، لا يستطيع أن
يخرج عن أمره حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر ملكي إلا الآن.
يقاتل بلسانه وسيفه
وحين اقترب خطر التتار وتولَّى قطز
السلطة لم يأبَهْ العز بن عبدالسلام في فتاواه بغضب الأمراء، فقال: إذا طرق العدو
بلاد الإسلام وجَبَ على العالَم قتالُهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما
تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا ما لكم من
الحوائط المذهبة والآلات النفيسة.
ولم يكتف الشيخ بالجهاد بلسانه وإنما
اشترك مقاتلاً بسيفه في صفوف الجند حين هاجم الصليبيون دمياط فنهض الشعب وأمامه
أمراؤه وجنوده وعلماؤه، وخطب الشيخ خطبة مؤثرة أشعلت الحمية في الصدور، ودفعت
الناس إلى الجهاد، حتى تحقق النصر على الأعداء!
محطة أخيرة
وتواكب العلماء والمفكرون الأحرار في هذه
الأمة على مر العصور يعلمون الناس العلم، ويقودونهم للتحرر من الظلم، رحم الله
العز بن عبدالسلام، وما أحوجنا لعالم بحجم هذا الرجل الذي يساوي أمة!