العلاقة الوطيدة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى

الكعبة المشرفة هي بيت الله -زاده الله تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا، وبرًا ومهابةً- والمسجد الأقصى أيضًا شرفه الله عز وجل ورفع ذكره، والعلاقة بينهما علاقة تشريف وتعظيم وتكريم، وفي حديث ابن عمر: «وَإِنَّ خَيْرَ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ»،  فإن كانت المساجد كلها جمعتها الخيرية العامة، فقد جمعت الكعبة والمسجد الأقصى خيرية خاصة، فهما من أعظم ثلاثة مساجد في الأرض، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى».

العلاقة القرآنية

وقد جعل الله تعالى بينهما علاقة وطيدة في القرآن الكريم، فقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (الإسراء: 1)، فلقد جمع الله تعالى بين المسجدين في رحلة الإسراء والمعراج لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الرحلة المباركة يتهيأ نبينا عليه الصلاة والسلام من الكعبة ثم يمر بالمسجد الأقصى ومنه للقاء الله تعالى فوق السماوات السبع، فتكون هنا علاقة البيتين أن كانا آخر ما مر به نبينا صلى الله عليه وسلم قبل العروج به.

علاقة البناء والتقديس

وحتى في بناء البيتين علاقة، فهما أول بيتين بنيا للناس في الأرض، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (آل عمران: 96)، وأعقبه بناء المسجد الأقصى، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى»، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ».

ثم بين العلماء أن الذي بناهما الملائكة، وقيل: آدم عليه السلام، وقيل: إبراهيم عليه السلام، والشاهد أنهما بنيا في وقت متقارب، وأن من بنى الكعبة بنى المسجد الأقصى، فكانت بينهما علاقة وطيدة حتى في بنائهما، وأما عن تقديسهما فحدّث ولا حرج، ومنه عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا وَنَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى، وَلَيُوشِكَنَّ أَنْ لَا يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ مِنَ الْأَرْضِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا -أَوْ قَالَ: خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».

النبي يصلي إليهما

ومن هذه العلاقة الوطيدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إليهما؛ أي جعلهما قبلته في الصلاة، ففي مكة كان يصلي لبيت المقدس، والكعبة بين يديه، ولما هاجر أُمِرَ أن يصلي لبيت المقدس حتى تحول بعد ذلك لاستقبال البيت الحرام، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ؛ أي أن من علاقة البيتين أن صحت الصلاة إليهما إما مجتمعين أو منفردين، حتى استقرت بعد ذلك إلى البيت الحرام بمكة.

إبراهيم ومحمد

معلوم كم هي العلاقة بين نبي الله إبراهيم عليه السلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم، فهي علاقة الوالد والولد، بل علاقة النبوة والأخوة والحب والمودة بينهما، بل وأُمِرَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة أبيه إبراهيم عليه السلام، فكانا على ملة واحدة، قال تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (النحل: 123).

فانظر لهذه العلاقة الوطيدة، وانظر كيف تنعكس على البيتين الشريفين، فهذا إبراهيم عليه السلام يهاجر من بيت المقدس لترك ولده بجوار البيت الحرام، ومرة ثانية ليرفع قواعد البيت الحرام، ذاك البيت الذي يولد بجواره محمد صلى الله عليه وسلم، والغريب لمَّا أراد أن يلاقي ربه لم يصعد له من البيت الحرام، بل يسري ليلًا للمسجد الأقصى عند أبيه إبراهيم عليه السلام، ويلقاه ويصلي به إمامًا داخل المسجد الأقصى مع جملة الأنبياء عليهم السلام، ومن هناك يصعد للقاء ربه ثم يعود لـ«الأقصى» ثم يرجع لمكة، ما هذه الدورة العجيبة وما هذا الارتباط الوثيق؟ إنها متلازمة ربانية أرادها الله تعالى بين هذه البقع المقدسة المطهرة.

عمر والمسجد الأقصى

يرتبط اسم أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بفتح بيت المقدس، فيقال دائمًا: فتحها عمر، وما ذاك إلا أن عمر فهم مراد الله تعالى من الإسراء والمعراج، وفهم سبب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في بيت المقدس، ولماذا لم يجتمعوا له في البيت الحرام مثلًا؟!

ومن هنا وجه جيوشه لفتح الشام كله، والأهم من ذلك أنه يذهب بنفسه في سابقة لم يفعلها منذ تولى الإمارة، فذهب بنفسه ليتسلم مفاتيح بيت المقدس، ويدخل بنفسه ينظف المسجد والقبة مما كان يلقى عليهما من القمامة، ثم يصلي في المسجد إيذانًا بعهد جديد للمسجد الأقصى، بأن عاد للسيادة الإسلامية التي كان عليها أيام إبراهيم عليه السلام والأنبياء من بعده، فـ«الأقصى» ليس يهوديًا ولا نصرانيًا، بل مسجدًا مقدسًا للمسلمين في كل زمان ومكان، والولاية عليه يجب أن تكون للمسلمين دائمًا، ومن هنا وضع عمر الأمانة والتبعة في عنق هذه الأمة إلى قيام الساعة.

مهمة المسلمين تجاه «الأقصى» اليوم

المسجد الأقصى هو ثالث المساجد المقدسة عند المسلمين، وكما أن المسلمين يغارون على الكعبة وعلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وجب عليهم أن يغاروا على المسجد الأقصى، وليس معنى أننا وُلِدْنَا فوجدناه أسيرًا أن يكون هذا وضعه الطبيعي، بل هذا امتحان واختبار للأمة من الله تعالى، فقد كلف الله هذه الأمة ألا تترك شبرًا من أرضها بيد عدوها، ولا أسيرًا من أبنائها بسجون عدوها، فكيف بالمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث المسجدين، فهذا أولى بالتحرير والتطهير.

وهذا عين ما فهمه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فما أن جاءته رسالة من أحد حراس المسجد يقول فيها: يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس، جاءت إليك ظلامة يشكو بها البيت المقدس، كل المساجد طهرت وأنا على شرفي مدنس.

هنا هب صلاح الدين للواجب الديني فحرره، وواجب الأمة اليوم أن تهب بكل السبل لتحريره، ولا يسقط عنها الوجوب ولا العقاب حتى يتم التحرير، جعلنا الله تعالى من جنده.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة