العلماء والجهاد.. «طوفان الأقصى» نموذجاً

تعيش الأمة الإسلامية اليوم محطة من أخطر محطات تاريخها المعاصر، فثبات المقاومة في غزة خلال عام ونصف عام يقدم نموذجاً جهادياً فريداً، بدأ يستنهض الأمة، ويصنع الجيل الصاعد، ويغير معادلات المنطقة، وفي المقابل، فإن الإبادة الجماعية التي تعرض لها أهلنا في غزة خلال «طوفان الأقصى» تفوق خسائرها الوصف.

رأينا خلال معركة «طوفان الأقصى» عشرات المواقف العلمائية الجماعية والفردية التي قامت بواجبها في المناصرة والمجاهدة والمناصحة، ووقفنا على مواقف أخرى وهَّنت موقفنا، ولمزت جهادنا، وأضعفت صفنا، وجميعهم يرفع شعار النصح والحرص، فإن كان مقصود الجميع خيراً فلماذا تباينت المواقف؟ وطالما أن الجهاد لتحرير بقعة محتلة من أرض المسلمين واجبٌ فلماذا لم يقم المسلمون بواجبهم؟ وما الدور المأمول من العلماء في مشروع الجهاد لنميز المجاهد من القاعد؟

دور علماء الأمة أيام المِحن.. الإمام العزُّ بن عبدالسلام


يحسن في البدء الإشارة إلى أن العلم الشرعي يشترك مع الجهاد بأنه محتاج إلى القوة والجرأة والشجاعة والتضحية، فالضعيف لا يفلح فيه، والخائف لا يحقق رشاداً ولا نصراً، وكلا المجالين يفتقر إلى الإعداد والاجتهاد، بل يتطلب استنفاراً وإنذاراً، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122)، والاجتهاد فيهما يتطلب نصب موازين الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة؛ لذلك، أنزل الله سبحانه مع رسله الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، والعلماء ورثة الأنبياء في تمييز الراجح من المرجوح، وتغليب الفاضل على المفضول.

قضايا الجهاد والسياسة الشرعية تتطلب الرجوع فيها إلى أهل الشريعة والسياسة والحرب

قال ابن تيمية: «ليس العاقل من عرف الخير من الشر، ولكن من عرف خير الخيرين وشر الشرين»، فمن أهم أسباب الاختلاف في الحكم على «طوفان الأقصى» بأنه انتصار أو انكسار عدم الاتفاق على معيار ننطلق منه في الموازنة والحكم، واختلاف هذا المعيار انعكس على مواقف العلماء من المعركة، بل وعلى مواقفنا من العلماء، وتباينت المواقف بشأن طبيعة الأدوار المطلوبة من العلماء في هذه المعركة، ومدى قيامهم بواجبهم، لذلك جاء هذا المقال لتوضيح بعض النقاط المهمة، نجملها على النحو التالي:

1- قضايا الجهاد والسياسة الشرعية من أبواب الدين التي ينبغي الرجوع فيها لأهل الشريعة وأهل الواقع والسياسة والحرب، ولا يصح الإفتاء فيها بمعزل عن المعطيات الواقعية، والاجتهاد الجماعي أصوب فيها من الرأي الفردي؛ لما في الشورى الجماعية من خير وبصيرة؛ (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، فالاجتهاد التأصيلي يستفاد من نصوص الوحي وفتاوى العلماء، أما تنزيل هذه الأحكام على الواقع فهو من الاجتهاد التطبيقي الذي يرجع فيه إلى العلماء وأهل الواقع والجهاد.

2- واجب العلماء الأساسي بيان الحق ودعوة الناس له، وتبصير الساسة والقادة والمجاهدين والعامة بواجباتهم، قال تعالى: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران: 187)، فالبيان جهاد العلماء المتعين في حقهم، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ، فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، فَقَتَلَهُ» (الجامع الصحيح للسنن والمسانيد (6/ 432))، فدور العلماء في الجهاد تسديد وترشيد.

وإن وجود مناصحة شرعية من العلماء للساسة والقادة والمجاهدين في السر والعلن، من الخير الذي نحمد الله عليه، والواجبات التي ينبغي القيام بها وتكثيرها، على أن تكون منسجمة مع المنهج الشرعي مضموناً وأسلوباً، فالمجاهدون الذين يضحون بالغالي والنفيس أحوج الناس إلى النصح والدعاء، وكلما رشد العمل الجهادي، وضاقت الفجوة بين أهل العلم والجهاد والسياسة كنا أقرب إلى النصر والفرج بإذن الله.

اختلاف المواقف حول «الطوفان» يعود إلى عدم الاتفاق على معيار موحد في الموازنة والحكم

3- كلام الفقهاء القدماء حول جهاد الدفع والطلب، والثبات أو الانهزام، والمعاهدات والمهادنات، ومعيار العدد في التولي يوم الزحف، ينبغي أن يوضع في سياقه التاريخي، ويستحضر فيه شكل الحروب وقتهم، وطبيعة الموازين الدولية آنذاك، وحال الأمة قوة وضعفاً في حينه، وحجم الضرر اللاحق بالمسلمين وبعدوهم، فكلامهم عن عدم وجوب الثبات رخصة جائزة لا تعني حرمة الثبات إلا إن انعدم إمكان النفع والإثخان، والواقع يشهد أن خسائر العدو فادحة كبيرة.

ثم إن ما وقع في السابع من أكتوبر لا ينطبق عليه معيار جهاد الطلب من كل الوجوه وإن شابهه من بعضها، إذ وقوع فلسطين تحت احتلال يجعلها في حالة دفع عامة، ووقوع السابع بمبادأة من المجاهدين يجعلها أقرب في الموازين لجهاد الطلب من حيث اختيار التوقيت والمكان، وهذا التداخل يجعلنا أمام حالة جديدة مختلفة تتطلب اجتهاداً آخر يراعي روح النصوص ومقاصدها الشرعية العامة.

4- الجهاد بابه واسع يشمل بذل الجهد واستفراغ الوسع في كل وسيلة تنصر الإسلام، وفي المقدمة منها الجهاد العسكري بالقتال والسنان، وجهاد الحجة والبيان واللسان، وجهاد تطبيب الناس وإسعافهم، وجهاد إغاثتهم وإرشادهم وتعليمهم، والجهاد الاجتماعي بالقيام على ذوي المجاهدين والشهداء.

وعلماء الإسلام على مدار التاريخ قاموا بواجبهم في الجهاد العلمي والدعوي وساندوا في الجهاد العسكري، ووجود نماذج فريدة من العلماء المجاهدين بالسنان واللسان كالعز بن عبدالسلام، وابن تيمية، يصلح في مقام التربية وصناعة القدوات والحث على الاقتفاء بآثارهم، دون عده معياراً للمفاصلة والحكم بالخذلان والتولي على من سلك باباً جهادياً آخر.

5- قام كثيرٌ من علماء الشريعة خلال «طوفان الأقصى» بجهود كبيرة في استنهاض الأمة الإسلامية، وإغاثة أهل غزة في مجالات الحياة المختلفة، وتصدير البيانات والفتاوى في شأن مجمل الأحداث المفصلية، والإجابة عن أسئلة الغزيين من المجاهدين والنازحين، وأطلقوا مبادرات عديدة في الضغط على صناع القرار في العالم الإسلامي، إلا أن هذه الجهود لا توازي وطأة الأحداث، والمجازر المرتكبة، والمجاعة الممتدة.

على العلماء قول كلمتهم بقضايا الأمة والجهاد مع مراعاة فقه الواقع والمآلات دون مداهنة للحكام

ومن حسن ظن المجاهدين بالعلماء أنهم طالبوهم بمواجهة الأنظمة الظالمة، والعمل على تغيير المعادلات الدولية، وتقديم نماذج في الفداء والتضحية، وتأملوا منهم أن يتعاملوا بثبات غلام الأخدود ولو أفناهم الخصوم عن آخرهم، وعندما شاهدوا الأدوار المنخفضة أصيبوا بخيبة أمل.

ختاماً، فإن واجب العلماء أن يقولوا كلمتهم في قضايا الأمة والجهاد، من منطلق الواجب والمسؤولية، وفق ما يترجح عندهم أنه الحق، مع مراعاة فقه الواقع والمآلات ومنهج تغيير المنكر، دون مداهنة للحكام أو مجاراة للجماهير، وعلى المجاهدين الاهتداء بآراء العلماء ومشاورتهم في شأن الجهاد وقراراته الكبرى، وإحسان الظن بهم، والانتفاع بالحق الذي معهم، ورد اجتهاداتهم التي تخالف مسلك المجاهدين أو تجافي الواقع بالتي هي أحسن، فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، والجهاد بلا بصيرة تيه، وعلم الشريعة بلا جهاد يترجمه أمنيات، والتكامل بين العلماء والمجاهدين سداد ورشاد.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة