العمل الخيري.. إعادة إعمار للنفس ونهاية لليأس والفراغ

يقول أحد الحكماء: "أمس أجل واليوم عمل وغدًا أمل"، وذلك في دعوة للمستقبل الإيجابي وعدم الالتفات إلى الوراء، وقد حذر القرآن الكريم من الاستسلام لمرارة الواقع أو اجترار الماضي المؤلم لأنه يمرض النفس، ولأن المشاعر اليائسة تغذي الأفكار اليائسة، حيث قال تعالى: (لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ) (الحديد:23).
لا شك أن الشعور بالراحة وسكون النفس هو مطلب كل إنسان في جميع محطات العمر، وهو ما يسعى إليه كل شخص في محيط أسرته وعمله. فالنفس تسير بين النشاط والكسل وتحتاج بين الحين والآخر أن تنهض من كبوتها وما يعتريها من مثبطات، فالشعور بالسعادة يولد طاقة إيجابية خاصة فيما يتعلق بإسداء المعروف للآخرين، حيث جاء في الأثر أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، أيُّ الناس أحبُّ إلى الله؟ فقال: أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل، سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة، أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة شهرًا».
فأعمال
الخير في جميع محطات العمر هي سر السعادة وأفضل الأعمال للقضاء على ما يساور النفس
من الإحباط واليأس والقضاء على الفراغ الذي هو مساحة خصبة لوساوس الشيطان.
ينصح الخبراء بضرورة التعرف على أشخاص جدد يتميزون بالطاقة الإيجابية ومحبين للحياة، وأن الاشتراك في الأنشطة الاجتماعية كالجمعيات الخيرية له دور كبير في القضاء على الفراغ وتسلل اليأس إلى النفوس.
القضاء على الرتابة واجترار الماضي
تواصلت
"المجتمع" مع الداعية والمفكر السوري "عبد الكريم بكار"؛
والذي حذّر من خطورة اجترار الماضي وآلامه في محطات العمر المختلفة، وأن الإنسان ينبغي
ألا يكون كالذي يقضي الشطر الأول من حياته في اشتهاء الشطر الثاني، ويقضي الشطر
الثاني في التأسف على الشطر الأول، وهكذا تمضي حياته عبثًا.
وذكر
المفكر السوري في حديثه أن السؤال المؤلم يكمن في: "هل المشكلة في الزمن.. أم
في طريقة تفكير الجيل نفسه.. هل المشكلة أن الحياة صعبة.. أم أن الهمة أصبحت أضعف
من أن تواجهها؟".
ووجه
"بكار" نصيحته للشباب، قائلًا إننا لم نُخلق لنعيش على هامش الحياة،
ننتظر شيئًا لا نعرفه، بل خُلقنا لنكون مؤثرين، مصلحين، بناة حضارة، وأن العقبات
لن تختفي، والفرص لن تنتظرك طويلًا، فإما أن تبني نفسك اليوم، أو ستبقى غدًا تشتكي
من كل شيء.. إلا نفسك.
كما
نبه "بكار" إلى ضرورة عدم الوقوع في فخ "الرتابة والملل"
وأننا لا نشعر بالنّعمة، لأننا نستيقظ صباحًا، حيث تفتح عينيك، وتتحرّك دون ألم،
وتتناول طعامك، وتمضي في يومك، فكلّ شيء يعمل كما ينبغي، لكن قلبك خالٍ من
الامتنان.
وتساءل لماذا لا نشكر؟ لأن العقل البشري حين يعتاد النعمة، يتوقف عن ملاحظتها، وهذه ظاهرة تُعرف في علم النفس بـ "التكيّف الإدراكي"، حيث يتجاهل الذهن ما لا يتغيّر، مهما كان عظيمًا، وقد نبّهنا القرآن إلى هذا الميل البشري، فقال الله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، فالنعمة لا تُدرك بعين التكرار، بل بعين التأمل.
العمل الخيري وملء الفراغ الروحي
من
جانبه أكد الدكتور "عبد الله الكيلاني" الأستاذ بكلية الشريعة في
الجامعة الأردنية أنه في ظل هذه التحديات، يبرز العمل الخيري كقوة دافعة وفعالة
ليس فقط في تقديم المساعدة المادية، بل وفي معالجة الجذور النفسية والاجتماعية
لهذه المشاعر السلبية، وذلك من منظور شرعي، اجتماعي ونفسي.
ونوه
في حديثه لـ"المجتمع" إلى ضرورة توظيف مفهوم "التفكير
السُّنَنِي" الذي يؤكد على وجود قوانين ثابتة تحكم الحياة الإنسانية
والمجتمعية، وتدلنا على هداية الله تعالى في تدبير شؤوننا. وبيّن أن التفكير
السنني يشير إلى أن هناك سُنَنًا إلهية تحكم الكون والحياة الإنسانية، ومن هذه
السنن سنة العطاء والأخذ، حيث أمرنا الله تعالى بالعطاء وحثنا عليه، وجعل فيه بركة
عظيمة، مصداقًا لقوله تعالى في محكم التنزيل: (وَمَا
أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
فالإنسان
عندما يعطي من وقته، أو ماله، أو جهده، فإنه لا يُثري حياة الآخرين فحسب، بل يُثري
حياته هو أيضًا، ويجد السكينة والطمأنينة.
وأضاف
أن هذا العطاء يمثل آلية سننية وعبادة جليلة للقضاء على اليأس والفراغ، وذلك
للأسباب التالية:
• إحياء الشعور
بالهدفية والمعنى:
يشعر
الكثيرون باليأس والفراغ نتيجة غياب الهدف أو المعنى في حياتهم، فالعمل الخيري
يمنحهم هدفًا نبيلًا يتجاوز الذات، فهم يصبحون جزءًا من حركة أكبر تسعى لتحسين
حياة الآخرين ابتغاء وجه الله تعالى، وهذا الانخراط يولد شعورًا عميقًا بالرضا
والإنجاز، ويملأ الفراغ الروحي الذي قد ينجم عن الانشغال بالذات أو الأهداف
المادية البحتة.
• تعزيز الانتماء
الاجتماعي في المجتمع:
وترسيخ
روح التكافل والترابط الأسري والمجتمعي، فعندما يشارك الأفراد في مبادرات خيرية،
يشعرون بأنهم جزء لا يتجزأ من نسيج مجتمعي مترابط، يساهمون في بنائه ورفاهيته.
• تنمية الكفاءة
الذاتية والثقة بالنفس:
رؤية
الأثر الإيجابي للمساهمات الخيرية على حياة الآخرين يعزز بشكل كبير من ثقة الفرد
بنفسه وكفاءته الذاتية، حيث يدرك المتطوع أنه قادر على إحداث فرق، وأن لديه القدرة
على العطاء والتأثير.
• تحويل الطاقة
السلبية إلى إيجابية:
يمكن
أن تتحول مشاعر اليأس والفراغ إلى طاقة سلبية مدمرة إذا لم يتم توجيهها بشكل صحيح،
لكن العمل الخيري يوفر قناة بناءة لتوجيه هذه الطاقة، فالمسلم لا يستسلم لليأس، بل
يسعى دائمًا إلى الخير والإصلاح.
خصوصية المجتمع الكويتي في العمل الخيري
يؤكد
"الكيلاني" أن المجتمع الكويتي له خصوصية وباع في مضمار العمل الخيري،
بالنظر إلى تجذر قيم التراحم والتكافل، والتي تُعد جزءًا لا يتجزأ من هويته
الثقافية والدينية، فلطالما كان العمل الخيري سمة بارزة في تاريخ الكويت، من خلال
الأوقاف والمبرات والجمعيات الخيرية التي نشطت منذ عقود.
وأضاف
أن العمل الخيري في الكويت يحظى بدعم كبير من كافة أطياف المجتمع، مما يشجع
الأفراد على المشاركة ويضفي قيمة اجتماعية عالية على جهودهم، وهو نموذج يجب أن
يُحتذى به في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
وثمَّن
"الكيلاني" المبادرات الشبابية في الكويت والتي ظهرت في السنوات
الأخيرة، مثل حملات تنظيف الشواطئ، أو مبادرات دعم الأسر المتعففة، أو توفير
الدروس لتقوية الطلاب غير القادرين.
وتعتمد
هذه المبادرات على شغف الشباب وحماسهم للعطاء، وتدل على روح العطاء المتجذرة في
هذا الجيل، إضافة إلى وجود الأفراد المؤثرين، فهناك العديد من الشخصيات الكويتية
التي كرست حياتها للعمل الخيري، وأصبحت قدوة للآخرين، وباتت قصصهم الملهمة تؤكد
كيف يمكن لشخص واحد أن يحدث فرقًا هائلًا في حياة الآلاف.