الفارس الأندلسي الأخير.. قصة موسى بن أبي الغسان

الغروب الأخير

في عام 1492م، بعد أكثر من 7 قرون من الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية (الأندلس)، كانت مملكة غرناطة آخر معقل للمسلمين، يحكمها الملك أبو عبدالله محمد الصغير، كانت جيوش الملكين الكاثوليكيين فرناندو، وإيزابيلا، تحاصر المدينة من كل مكان، والضعف واليأس قد دبا في قلوب الكثيرين في بلاط الصغير.

في وسط هذا الجو المشحون بالهزيمة، برزت شخصية موسى بن أبي الغسان، كان فارسًا من نبلاء غرناطة، مشهورًا بشجاعته وإقدامه، وكرامة نفسه، وإيمانه الراسخ، لم يكن مجرد محارب، بل كان رمزًا للفخر العربي والإسلامي.

اجتمع مجلس ملك غرناطة ليناقش مصير المملكة الحصينة، وكانت المدينة على حافة الانهيار من الجوع والمرض والحصار الطويل، وقف الوزراء والفقهاء المهادنون ينصحون الملك بتسليم المدينة وتوقيع معاهدة استسلام تضمن للمسلمين حياتهم ودينهم.

النذير الشجاع

بينما كانت الكلمات المفعمة بالاستسلام تملأ القاعة، إذ انطلق صوت موسى بن أبي الغسان كالرعد، قاطعًا حديث أولئك الداعين للتسليم والاستسلام، وقف شامخًا وغاضبًا، نظراته سهام عربية أصيلة، ونبراته كصليل سيوف تشتبك لتخط توقيعًا أخيرًا من توقيعات العزة والفداء.

كان يحذرهم من عواقب التسليم، ويذكرهم بأن الموت في ساحة الشرف أهون من ذل الأسر وانتهاك الحرمات، لكن الملك وحاشيته اتخذوا القرار بتسليم المدينة.

وأورد الإسبان حكاية موسى في صياغة أقرب للأساطير، فذكروا أنه «حينما اجتمع الزعماء في بهو الحمراء الكبير، ليوقعوا عهد التسليم، وليحكموا على دولتهم بالذهاب، وعلى أمتهم بالفناء والمحو، عندئذ لم يملك كثير منهم نفسه من البكاء والعويل، ولكن موسى لبث وحده صامتًا عابسًا وقال:

اتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع ولكن لتقطر الدماء، وإني لأرى روح الشعب قد خبت حتى ليستحيل علينا أن ننقذ غرناطة، ولكن ما زال ثمة بديل للنفوس النبيلة، ذلك هو موت مجيد، فلنمت دفاعًا عن حرياتنا وانتقامًا لمصائب غرناطة، وسوف تحتضن أمنا الغبراء أبناءها أحرارًا من أغلال الفاتح وعسفه، ولئن لم يظفر أحدنا بقبر يستر رفاته، فإنه لن يعدم سماء تغطيه، وحاشا الله أن يقال: إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعًا عنها».

قرار التسليم

صمت موسى، وساد المجلسَ سكونُ الموت، وسرح أبو عبدالله البصر حوله، فإذا اليأس ماثل في تلك الوجوه التي أضناها الألم، وإذا كل عزم قد غاض في تلك القلوب الكسيرة الدامية، عندئذ صاح: «الله أكبر لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا راد لقضاء الله، تالله لقد كتب عليَّ أن أكون شقيًّا، وأن يذهب الملك على يديَّ».

وصاحت الجماعة على أثره: «الله أكبر ولا راد لقضاء الله»، وكرروا جميعًا أنها إرادة الله ولتكن، وأنه لا مفر من قضائه ولا مهرب، وأن شروط ملك النصارى أفضل ما يمكن الحصول عليه.

فلما رأى موسى أن اعتراضه عبث لا يجدي، وأن الجماعة قد أخذت فعلًا في توقيع صك التسليم، نهض مغضبًا وصاح: «لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم، إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نَهْبُ مدننا وتدميرها، وتدنيسُ مساجدنا، وتخريبُ بيوتنا، وهتكُ نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجورُ الفاحش، والتعصبُ الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق.. هذا ما سوف نعاني من مصائبَ وعسفٍ، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة، التي تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله لن أراه».

ثم غادر المجلس واخترق بهو الأسود عابسًا حزينًا، وجاز إلى أبهاء الحمراء الخارجية، دون أن يرمق أحدًا أو يفوه بكلمة، ثم ذهب إلى داره وغطى نفسه بسلاحه، واقتعد غارب جواده المحبوب، واخترق شوارع غرناطة، حتى غادرها من باب إلبيرة، ولم يره إنسان أو يسمع به بعد ذلك قط.

مقاومة حتى النزع الأخير

أورد د. محمد عبدالله عنان رواية أخرى عن مؤرخ إسباني قديم هو القس أنطونيو أجابيدا حاول أن يبين فيها مصير هذا البطل العظيم، فقال: «إن سَرية من الفرسان النصارى تبلغ نحو خمسة عشر، التقت في ذلك المساء بعينه، على ضفة نهر «شنيل» بفارس مسلم قد دججه السلاح من رأسه إلى قدمه، وكان مغلقًا خوذته شاهرًا رمحه، وكان جواده غارقًا مثله في رداء من الصلب.

فلما رأوه مقبلًا عليهم طلبوا إليه أن يقف وأن يُعرِّف بنفسه، فلم يجب الفارس المسلم، ولكنه وثب إلى وسطهم وطعن أحدهم برمحه وانتزعه عن سرجه فألقاه إلى الأرض، ثم انقضَّ على الباقين يثخن فيهم طعانًا، وكانت ضرباته ثائرة قاتلة، وكأنه لم يشعر بما أثخنه من جراح، ولم يرد إلا أن يقتل وأن يسيل الدم، وكأنه إنما يقاتل للانتقام فقط، وكأنما يتوق إلى أن يقتل دون أن يعيش لينعم بظَفَرِه، وهكذا لبث يبطش بالفرسان النصارى حتى أفنى معظمهم، غير أنه أصيب في النهاية بجرح خطر، ثم سقط جواده من تحته بطعنة أخرى، فسقط إلى الأرض، ولكنه ركع على ركبتيه واستل خنجره، وأخذ يناضل عن نفسه، فلما رأى أن قواه قد نضبت، ولم يرد أن يقع أسيرًا في يد خصومه، ارتد إلى ما ورائه بوثبة أخيرة، وألقى بنفسه إلى مياه النهر، فابتلعته لفوره، ودفعه سلاحه الثقيل إلى الأعماق».

وقد سُلمت غرناطة بعد أيام قليلة من استشهاده، ودخلها الملكان الكاثوليكيان منتصرين، في 2 يناير 1492م، لكن قصة موسى بن أبي الغسان لم تمت، لقد تحول إلى أسطورة حية، رمز للكرامة الأخيرة للأندلس، والشجاعة التي ترفض الانحناء. (تاريخ الإسلام في الأندلس، محمد عبدالله عنان).

دروس وفوائد

1- الشرف والكرامة فوق الحياة ذاتها:

عندما تُنتزع الأرض، يبقى الشرف آخر ما يملكه الإنسان، الموت من أجل الحفاظ على الكرامة انتصار حقيقي، بينما الحياة في الذل هزيمة.

ولا ينتهي الصراع بخسارة المعركة العسكرية، بل ينتهي عندما تتنازل الأمة عن كرامتها وقيمها.

2- المقاومة حتى النهاية ليست انتحارًا:

لم يكن خروج موسى وحيدًا لمقاتلة الأعداء فعلًا انتحاريًا يائسًا، بل كان رسالة قوية مفادها: «هناك رجال لا يستسلمون».

وبعض المواقف تتطلب التضحية لترسيخ مبدأ، حتى لو بدت النتيجة محسومة سلفًا للعدو، وهذه المواقف تخلد في الذاكرة الجماعية وتصبح وقودًا للمقاومين في المستقبل.

3- مسؤولية النخبة في ساعات الخطر:

كان موسى جزءًا من النخبة الحاكمة والأرستقراطية في غرناطة، لم يقبل بالصمت أو يسوغ الاستسلام لحفظ منصبه أو ممتلكاته.

وفي لحظات المحن الوطنية، تكون مسؤولية النخبة؛ من مفكرين وقادة وساسة، أكبر في الدفاع عن القيم والمبادئ، وليس المصالح الضيقة.

4- رفض الواقعية المنهزمة:

كان بإمكان موسى أن يُسوِّغ الاستسلام بأنه حكمة وواقعية في مواجهة قوة لا تُقهَر، كما فعل الآخرون، لكنه رفض هذا المنطق لأنه أدرك أن بعض الحقوق لا تُمس.

وهناك فرق بين الواقعية والاستسلام، الواقعية تعني إدراك حجم التحدي والعمل بذكاء لمواجهته، وليس الاستسلام له.

5- الفعل الرمزي له قوة أكبر من الجيوش:

لم يغير موت موسى بن أبي الغسان النتيجة العسكرية لسقوط غرناطة، لكنه حوّل هزيمة عسكرية إلى ملحمة خالدة.

والأفعال الرمزية البطولية تخلد في التاريخ وتصبح مصدر إلهام لأجيال لاحقة، في حين تُنسى تفاصيل المعارك والاتفاقيات، الفعل الرمزي يهزم النسيان.

6- التحذير من التطبيع مع الهزيمة:

حذر موسى من عواقب التسليم وقال: «الله الله في ذراريكم ونسائكم»، كان يرى بوادر التطبيع مع فكرة الهزيمة والاستسلام ويحاول أن يهز ضمير قومه.

والخطر الأكبر ليس في هزيمة الجيوش، بل في استسلام العقول والقلوب وتقبل الأمر الواقع.

7- الفرد يمكن أن يصنع الفارق:

في قاعة مليئة بالمسؤولين المستسلمين، كان صوت موسى الوحيد هو الصادق الشجاع.

ويجب على المرء ألا يتبع القطيع إذا كان القطيع يسير نحو الهاوية، موقف واحد شجاع يمكن أن يغير دفة التاريخ الأخلاقي، إن لم يكن العسكري.

8- الربط بين مصير الأرض ومصير الشعب:

فهم موسى أن تسليم الأرض (غرناطة) يعني بالضرورة وقوع الشعب في الذل والعبودية وسبي النساء.

فلا انفصال بين حرية الأرض وكرامة الإنسان، الدفاع عن الأرض دفاع عن كرامة وحرمة ومستقبل الشعب.

إن قصة موسى بن أبي الغسان مرآة ننظر فيها اليوم لنتعلم كيف نواجه التحديات، إنها تذكرنا بأن المعارك تخاض أولاً في ساحات الإرادة والكرامة، وأن الهزيمة الحقيقية تبدأ عندما نقتنع بأننا منهزمون.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة