الفلسطينيون بين المرض والاحتلال.. ملحمة صمود لا تعرف الانكسار

لؤي صوالحة

23 نوفمبر 2025

102

في فلسطين، الطريق إلى المستشفى ساحة اختبار للبقاء على قيد الحياة، والسؤال الذي يطرحه كل مريض: هل سأصل؟ وهل سيُسمح لي بالعودة؟ هنا، المرض ليس مجرد حالة طبية، بل معركة يومية تتقاطع فيها السياسة والجغرافيا والوجود البشري.

في قلب هذه المعركة يقف مرضى الكلى، الذين يعتمدون على جلسات غسيل الدم 3 مرات أسبوعيًا أو أكثر، بالنسبة لهم، كل دقيقة تأخير تهديد مباشر للحياة، وبينما يسعى العالم لعلاج المرض، يواجه الفلسطيني تحديًا إضافيًا: الحاجز العسكري، الذي قد يفتح الطريق أو يقف كجدار بينه وبين الحياة نفسها.

هذا التحقيق يروي ملحمة صمود يومية للفلسطيني، يكشف كيف يتحول المرض إلى فعل مقاومة، وكيف يصبح الوصول إلى العلاج رمزًا لحقوق الإنسان المهدورة في ظل الاحتلال.

رحلة المرض.. بين السموم والحواجز

في جنوب نابلس، تحديدًا في بلدة بيتا والقرى المجاورة، تبدأ رحلة مرضى الكلى قبل بزوغ الفجر، محمد حمايل، مريض كلى منذ أكثر من 10 سنوات، يعرف جيدًا معنى أن تكون حياته معلقة بقرار جنود لا يعرفون الرحمة.

يقول: أحيانًا أصل إلى الحاجز مع عشرات السيارات، والجنود يتنقلون بين المركبات بلا هدف واضح، يوقفون هذه، ثم يتركون أخرى، ثم يعودون للتدقيق في الهويات، والوقت يمضي ببطء شديد، وأشعر أن السموم تتحرك في دمي في اللحظة نفسها التي ينتظر فيها الجندي انتهاء سيجارته.

فتأخر ساعتين على حاجز حوارة كان كافيًا لرفع ضغطه إلى مستويات حرجة، وترك أثرًا نفسيًا طويل الأمد.

الحاجة فتحية حمايل، أم لـ3 أطفال، تلخص معاناة الأمومة تحت الاحتلال: نخرج قبل الفجر، والطريق لا يرحم، والبرد قارس، والجنود لا يرون التعب في وجهي ولا في ساقيّ المنتفختين، يرون فقط بطاقة هوية.

حادثة مؤلمة على حاجز زعترة بعد جلسة علاج طويلة، جعلتها تكاد تُفقد وعيها، واضطر ابنها إلى مساعدتها على الوقوف، والطبيب لاحقًا أشار إلى أن الإرهاق بعد الجلسة يجعل الجسم هشًا، والوقوف في البرد يزيد من خطر المضاعفات.

فايز: الإسعاف حق أساسي

فايز، مريض آخر، يرى أن وجود سيارة إسعاف مرافقة هو الفرق بين الحياة والموت.

يقول: الإسعاف ليس رفاهية، وجوده يحمي حياتنا وكرامتنا، أحيانًا يمنع الجنود السيارات العادية من المرور، لكن يسمحون بالإسعاف، لماذا لا يكون لدينا إسعاف ثابت يوصل المرضى؟

ويواصل: دفعنا آلاف الشواكل سنويًا للوصول للمستشفى، الاحتلال يجعل كل خطوة مُكلفة؛ الطريق أطول، والوقود أكثر، والأجرة أعلى، والوقت أثمن، هذا ليس مرضًا فقط، هذا اقتصاد معاق.

البعد المالي والاجتماعي للمرض في ظل الاحتلال

المرضى وأسرهم يتحملون أعباء مالية هائلة تتمثل في:

  • طرق التفافية تطيل الرحلة بمئات الكيلومترات.
  • سيارات أجرة خاصة بسبب منع وسائل النقل العامة.
  • الحاجة لمُرافق دائم.
  • شراء أدوية إضافية لمعالجة آثار التأخير والإرهاق.
  • فقدان أيام العمل بسبب الانتظار الطويل على الحواجز.

ويصف حمايل الوضع: أحيانًا أحتاج 50 شيكلاً إضافية للوصول فقط، تخيّل أن تدفع هذا 3 مرات أسبوعيًا! المرض أصبح عبئًا اقتصاديًا يصنعه الاحتلال.

وأسرة المريض تتحمل أيضًا وقتًا طويلًا لمرافقة المريض، وخسارة دخل الأسرة، وإرهاقًا نفسيًا بسبب الخوف عليه، وتعطيل حياة الأبناء.

ابن الحاجة فتحية يقول: لم يعد لديَّ وقت للعمل، جلسات أمي والحواجز استهلكت حياتي كلها.

المشهد الطبي.. حين يصبح الطبيب مقاتلًا صامتًا

في قسم الكلى بمستشفى النجاح، يبدأ النهار قبل الفجر، د. أحمد عناية، اختصاصي أمراض الكلى، يعرف كل مريض وأعراضه بدقة، ويرصد أثر الحواجز على الصحة الجسدية والنفسية يقول: جلسات غسيل الكلى ليست خيارًا، إنها حياة، أي تأخير ولو لدقائق يمكن أن يضاعف السموم في الدم، المرضى القادمون من جنوب نابلس يواجهون خوفًا مزدوجًا؛ الموت بسبب المرض، والموت أو التأخير بسبب الاحتلال.


د.أحمد_عناية

وأضاف: تراكم السموم يؤدي لمضاعفات حادة، من بينها توقف القلب المفاجئ، وتلوث الدم، وضيق التنفس الحاد، وبعض المرضى أصبحوا يخافون من الذهاب أصلًا؛ ما يؤدي إلى انسحاب نفسي جزئي من العلاج.

وتقول الممرضة سُمى: الكثير من المرضى يصلون متوترين جدًا؛ ما يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم ويؤثر على بداية الجلسة، أحيانًا نحتاج 20 دقيقة إضافية لتهدئة المريض قبل البدء بالعلاج.

الخاروف: المعادلة المعقدة لإدارة العمليات

مدير العمليات والتشغيل حمزة الخاروف يوضح أن التحدي الأساسي ليس في قدرة المستشفى، بل في الوصول إليه، ويقول: لدينا القدرة على استقبال جميع المرضى، المشكلة في الطريق المؤدية للمستشفى، والحواجز تجعل التخطيط شبه مستحيل، نقاتل الزمن، ونقاتل الحواجز، ونقاتل الإرهاق؛ حتى لا يخسر المرضى جلساتهم.


حمزة_الخاروف

حقائق صادمة

  • أكثر من 20% من المرضى يتأخرون أسبوعيًا بسبب الحواجز.
  • بعض الجلسات تبدأ في منتصف الليل.
  • بعض المرضى يُدمجون في ورديات غير مناسبة لحالتهم.
  • سيارات الإسعاف تنفق وقودًا إضافيًا بسبب الطرق الالتفافية.
  • تكلفة تشغيل كل وردية إضافية تصل لعشرات الآلاف من الشواكل.

حبش: رواية من قلب الحاجز

المسعف أحمد حبش يروي حادثة تلخص الواقع المرير قائلاً: كنا ننقل مريضًا بعد جلسة غسيل، كان ضعيفًا جدًا، أوقفنا الجنود وطلبوا منه النزول، كاد يسقط، أمسكت به، مضيفاً: نحن نحمل المرضى لا السلاح، لكن الاحتلال يعاملنا كما لو أننا خطر، نقاتل الزمن، ونقاتل الحواجز، ونقاتل الإرهاق؛ حتى لا يخسر المرضى جلساتهم.


ضابط_الإسعاف_أحمد_الحبش

البعد النفسي.. أثر الحواجز على الصحة العقلية

علماء النفس يؤكدون أن التوتر المستمر يؤدي لارتفاع ضغط الدم، واضطرابات النوم، وزيادة القلق، فمرضى الكلى يعانون من هشاشة الأعصاب، وكبار السن والنساء أكثر تأثرًا.

الحاجة فتحية تختصر المعاناة النفسية وتقول: أحيانًا لا أنام، أفكر بالحاجز أكثر من المرض.

والحواجز العسكرية في الضفة الغربية، التي امتدت لأكثر من 20 عامًا أصبحت جزءًا من النسيج اليومي للفلسطينيين:

  • تتحكم بالحركة اليومية.
  • تعطل الاقتصاد والتعليم والصحة.
  • تُضعف النسيج الاجتماعي والنفسي.

قصص مرضى الكلى في جنوب نابلس تعكس الحالة الفلسطينية بأكملها؛ شعب يقف عند حاجز قد يفتحه الاحتلال أو يغلقه، لكن قلب الفلسطيني لا يُغلق.

كل جلسة غسيل كلى ليست علاجًا فقط، بل فعل مقاومة، كل مريض يصل إلى المستشفى هو انتصار صغير، وكل معاناة تروى وثيقة تاريخية تُكتب في أجسادهم.

في فلسطين، الحق في الحياة نفسه أصبح رسالة يومية، صرخة شعب لا يلين، وملحمة صمود مكتوبة على أجساد المرضى، وعلى صفحات التاريخ.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة