القيم الإسلامية في ظل العالم الرقمي.. تحديات وفرص
تمثل القيم الإسلامية الدعامة الأساسية لتشريعات الإسلام، وهي تمثل المعايير الأخلاقية والتوجيهات التي جاء بها الإسلام لتنظيم حياة الإنسان في مختلف جوانبها، سواء كانت دينية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، وتُستمد من القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة، وهي تهدف إلى تحقيق الخير والسعادة للإنسان.
والقيم الإسلامية هي إحدى تجليات الأخلاق التي هي أساس البناء الإنساني، وهي من أهم أبعاد الرسالات السماوية التي تمثل التزكية أحد أهم أهدافها وغاياتها، وفي التنزيل الحكيم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة: 2)، وفيه: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (آل عمران: 164).
والتزكية هي بعد عظيم في النفس يجعلها فوق كل المغريات والملهيات، وأصلها: نفي ما يُستقبح قولاً أو فعلاً، وحقيقتها: تخبر عما ينطوي عليه الإنسان(1).
تواجه القيم التي تتشابك مع الأخلاق والتزكية تحديات في هذا العصر، وكمدخل للوقوف على التحديات والفرص الخاصة بالقيم والأخلاق في هذا العصر الرقمي، نشير أولًا إلى خصائص القيم:
تعد القيم والأخلاق من المشترك الإنساني عامَّة، لكن لكل مجتمع في قيمه وأخلاقه خصائص، ومن أهم خصائص القيم والأخلاق في الإسلام ما يلي:
- الشمولية: فهما يشملان جوانب المرء كلها، وحين شرعهما الإسلام جعلهما فريضة على المسلم نحو المسلم وغير المسلم.
- الربانية، فالقيم تشريعات إلهية ملزمة، وقد قال الله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران: 79)، قال السلمي: متخلقين بأخلاق الحق، علماء حلماء(2)، فالقيم وضع إلهي لسياسة البشر نحو الأفضل من الخصال والأقوم من الفعال.
- المرونة: فالقيم في الإسلام تناسب كل زمان ومكان، ويمكن تطبيقها في مختلف البيئات والثقافات.
- التوازن: فهي توازن بين الروح والمادة، وبين الفرد والمجتمع، لا تهذب الروح على حساب الجسم، ولا الجسم على حساب الروح، بل لكل منهما جانب ترعاه القيم.
- الواقعية: فهي لا تكلف الإنسان ولا تعنته بما لا يطيق، بل فرائضها دائماً تتوافق وقدرة الإنسان واستعداده.
العالم الرقمي
العالم الرقمي هو البيئة الافتراضية التي تعتمد على التكنولوجيا الرقمية وشبكة الإنترنت، ويشمل ذلك: الأجهزة الذكية، وسائل التواصل الاجتماعي، التجارة الإلكترونية، التعليم عن بُعد، بالإضافة إلى التطبيقات المختلفة التي أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية.
هذا العالم الرقمي أو الافتراضي حوَّل المجتمعات من مجتمعات متباعدة تتواصل كل حين، إلى مجتمعات كأنها تعيش معاً لحظة بلحظة رغم تباعدها، وكانت له نتائج إيجابية شتى، منها: سهولة التواصل بما يجعل العالم يبدو كقرية صغيرة.
كذلك أيضاً سهولة الوصول إلى المعرفة، حيث توفر منصاته الرقمية كميات هائلة من المعلومات؛ ما يسهل التعلم الذاتي والبحث في أي وقت.
انتشار التعليم عن بُعد، كالجامعات الإلكترونية والدورات التدريبية.
ورغم ما سلف وغيره؛ فإنه عالم مليء بمشكلات جمة، منها:
- الإدمان الرقمي؛ حيث يقضي بعضهم وقتاً طويلاً على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
- التأثير على العلاقات الاجتماعية، بالإفراط في استخدام الأجهزة ومتابعة العالم الافتراضي.
- التعرض للمحتوى الضار؛ كالأخبار المضللة، والمحتوى غير الأخلاقي، والعنف الإلكتروني.
- التحديات الصحية؛ الجلوس الطويل أمام الشاشات يسبب مشكلات مثل ضعف النظر وآلام الرقبة والظهر.
- التأثير على القيم؛ حيث يؤدي الانفتاح غير الموجَّه إلى التأثير السلبي على القيم الثقافية والدينية، وهنا لا بد من النظر في حلول لتلك المشكلات.
آليات الحفاظ على القيم الإسلامية
القيم هي الضمانة الأهم للحفاظ على المجتمع، فإن الأمم تؤخذ أسوأ ما تؤخذ إذا انهارت فيها القيم، والقيم هي الضمانة الأهم في بقاء الأمم، ولعلنا هنا نلحظ ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الأشعريين بقوله: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم»(3)، فالتواصل والشعور بفاقة الآخر قيمة سامية، ضمنت لأصحابها جواراً هو الأعظم، وذلك في مقابل مصائر أمم أخذت وأهلكت بالتدابر وانفراط القيم وتجاوز حدود الله تعالى، كما حدث لقارون، وقوم لوط، وغيرهم من الأمم والجماعات والأفراد.
من أهم ما يبرز كسياج يحفظ القيم بين الأفراد، في ظل تغول ملحوظ في زحف قيم العالم الرقمي السلبية، نجد أن من أهم الكوابح التربية الأسرية؛ حيث يؤدي الأهل دوراً محورياً في توجيه الأبناء في استخدامهم للتكنولوجيا، ويأتي التعليم بُعد ذلك ليمثل جسراً حائلاً بين المجتمع وطوفان العالم الرقمي بمعطياته ومخرجاته السلبية، وذلك بإدخال مفاهيم القيم في المناهج الدراسية، وتوعية الشباب.
تؤدي القدوة الحسنة دوراً هائلاً، حيث تكون للنماذج الإيجابية للأفراد الذين يلتزمون بالقيم دور مهم في كبح تغول قيم وأخلاقيات العالم الرقمي السلبية
كذلك لا بد أن نشير إلى التقنية الآمنة، وذلك باستخدام برامج تصفية المحتوى، وتحديد أوقات لاستخدام الأجهزة، وهي مسؤولية ولاة الأمر في الأسرة وفي الأمة عامّة.
فرص سانحة في ظل العالم الرقمي
دائماً ما كنا نقول لأبناء جيلينا: إنه أتيح لنا من المعارف والمؤلفات كما لم يتح لأساطين العلماء حتى 50 سنة مضت، ولقد اطلعنا على كتب، لا نجد لها ذكراً في مؤلفات أمثال ابن حجر العسقلاني، والسيوطي، وغيرهما ممن سبق أو أتى بعد، رغم تداخلها مع مؤلفاتهم، وكونها تمثل ركيزة ودراسات سابقة تتشابك معها.
وفي ظل العالم الرقمي وفي سبيل تعزيز الفرص الخادمة للقيم من خلاله يمكن أن يشار إلى ما يلي:
أولاً: نشر المعرفة الإسلامية بسهولة، حيث توفر التكنولوجيا الرقمية أدوات للوصول إلى مصادر المعرفة الإسلامية، بلغات متعددة.
ثانياً: تعزيز الأخلاق الرقمية، مثل الصدق، والأمانة، وحسن التعامل؛ ما يمكن معه أن يكون أساسًا لنشر ثقافة الأخلاق الرقمية، كذا يمكن تحفيز المستخدمين على الالتزام بالسلوك المسؤول أثناء استخدام الإنترنت، كذلك يمكن استخدام منصات التواصل الاجتماعي لنشر القيم الدينية بطرق مبتكرة ومؤثرة.
ثالثاً: بناء منصات تعليمية رقمية، وذلك بإنشاء أكاديميات ومدارس رقمية لتعليم القيم الإسلامية للأطفال والكبار، كما يمكن تصميم ألعاب إلكترونية وبرامج ترفيهية تعزز القيم الإسلامية.
رابعاً: مكافحة المعلومات المغلوطة عن الإسلام، وذلك باستخدام التكنولوجيا لتوضيح المفاهيم الخاطئة التي يتم تداولها حول الإسلام.
خامساً: إدارة الوقت وتنظيم الحياة، فالوقت هو وعاء الحياة النابض، ومن خلاله تتجلى القيم وتؤتي ثمارها، ومبدأ إدارة الوقت وانعكاساته على القيم يلحظ في المواقيت الشرعية للعبادات، حيث مبدأ المسؤولية والالتزام تعد ركائز مهمة للقيم، ويمكن توظيف العالم الرقمي في ذلك.
سادساً: التواصل بين المسلمين عالميًا، فالعالم الرقمي يُسهّل التواصل بين المسلمين في مختلف أنحاء العالم؛ ما يعزز الشعور بالأخوة الإسلامية وتبادل الخبرات والثقافات التي تنعكس إيجاباً على تراسل القيم.
لقد كانت التجارب الإسلامية لإعادة القيم إلى مسارها شغلاً شاغلاً لجهود المصلحين، فاهتموا بتوطين القيم وتربية المريدين عليها، وما بدأت نهضة إلا ورافقتها حركة إحياء شاملة للقيم والأخلاق، وكل الحركات التي تبنت القيم وجعلتها نظاماً محكماً نجحت وآتت ثمارها، وبالمزج بين الإنساني والعمراني تقوم الحضارة وتترسخ في حركة التاريخ، وإذا لم يوظف العالم الافتراضي في الإصلاح والإحياء فقد فوت المصلحون على أنفسهم شيئاً لا يمكنهم العمل بدونه في هذا الزمن.
____________________
(1) التعاريف، ص 174.
(2) تفسير السلمي (1/ 105).
(3) متفق عليه.