«الكريسماس».. من «بابا روما» إلى «بابا نويل»!

د. أحمد عيسى

21 ديسمبر 2025

0

في القرن الرابع الميلادي وفي عهد البابا يوليوس الأول، بدأ المسيحيون في روما بالاحتفال بميلاد المسيح، وتطور الاحتفال حتى صار أضخم مهرجان موسمي تجاري للتسوق، وللأضواء والزينة واللهو والأكل والشرب والمتعة، وصار «بابا نويل» الأسطوري شعارًا عالميًا رأسماليًا لـ«الكريسماس»، وحل محل بابا روما الروحي! وإليكم القصة.

ظهر أول ذكر موثّق لاحتفال الكنيسة الغربية بميلاد المسيح في وثائق تقويمية للأحداث بروما تسمى «كرونوغراف» لسنة 354م، وقد يعود تاريخ بعض النصوص فيها لعام 336م، وهكذا، بحلول عامي 336 أو 354م (في عهد البابا يوليوس الأول)، بدأ المسيحيون في روما يحتفلون بميلاد المسيح في 25 ديسمبر، وهذه الوثيقة هي أقدم دليل لهذا الموضوع(1).

لماذا أضاف المسيحيون احتفالًا بميلاد المسيح؟

ليس هناك إجابة واضحة، ولكن يُرجّح أنه في العصر القسطنطيني وما تلاه، وهو عصر المجامع الكنسية المسكونية (العالمية) التي شهدت خلافات لاهوتية حول طبيعة المسيح، كان الاحتفال بعيد الميلاد مفيدًا لهم للإعلان عن اعتقادهم بألوهية المسيح منذ ولادته، ولكن تحديد تاريخ الاحتفال بعيد الميلاد شكّل مشكلة، إذ لم تُشر نصوص العهد الجديد، ولا غيرها من الأدلة الأخرى، بوضوح إلى شهر أو يوم الميلاد، وقد توصلت محاولات مختلفة لحساب الميلاد إلى تواريخ مثل 25 مارس، و28 مارس، و19 أبريل، و20 أبريل، و20 مايو، و18 نوفمبر، دون إجماع(2).

لماذا 25 ديسمبر؟

يقول البروفيسور فوربس، أستاذ الدراسات الدينية بولاية آيوا: إنه مهما كانت الأسباب اللاهوتية أو الحسابات التقويمية، توجد حقيقة واحدة واضحة، فباختيارها يوم 25 ديسمبر، استقرت الكنيسة الغربية على تاريخ يقع في منتصف 3 مهرجانات وثنية رومانية شهيرة في منتصف الشتاء، كان أولها مهرجان لمعبودهم زحل «ساتورناليا»، وهو مهرجان حصاد زراعي، من 17 - 23 ديسمبر، واشتهر باحتفالاته الماجنة، بعد بضعة أيام، جاء مهرجان رأس السنة «كاليندس» الذي استمر 5 أيام، بين هذين الاحتفالين، كان يوم 25 ديسمبر هو الانقلاب الشتوي وفقًا لتقويمات ذلك الوقت.

واحتفل الرومان بيوم 25 ديسمبر باعتباره عيد ميلاد (سول إنفيكتوس)، الشمس التي لا تُقهر، وهو إله أسطوري امتزجت عبادته بعبادة الإله الوثني المحارب ميثرا، وبالنظر إلى أن تلك المهرجانات الثلاثة المنتشرة في الثقافة الوثنية الرومانية، فمن غير المرجح أن يكون اختيار المسيحية للاحتفال بعيد ميلاد المسيح في وسطها مجرد مصادفة، ومن المنطقي افتراض أن القادة المسيحيين في ذلك الوقت حاولوا عمدًا استغلال احتفالات منتصف الشتاء الوثنية القائمة بالفعل، إما لترويضها، أو تغييرها، أو للاستفادة من شعبيتها لتعزيز قبول المسيحية، أو ربما الثلاثة معًا(3).

حظر الكريسماس في إنجلترا

رفض البيوريتانيون الإنجليز (Puritans) (حركة بروتستانتية لتطهير الكنيسة)، إلى جانب كهنة المشيخيين في إسكتلندا، عيد الميلاد رفضًا قاطعًا، وقالوا: إنه بدعة كاثوليكية لم تُمارس في الكنيسة الأولى، واشتكوا من أن احتفالات الشتاء تُوفر الكثير من الأعذار للسلوك الفاسق والسكر والقمار، وهكذا، في عام 1644م، أعلن البرلمان الإنجليزي، الخاضع لسيطرة الحركة، عيد الميلاد يومًا للتكفير عن الذنب بدلًا من كونه عيدًا، وفي عام 1652م، حظر أي احتفال بعيد الميلاد، سواء داخل الكنائس أو خارجها(4).

لم يعُد عيد الميلاد إلى الواجهة في إنجلترا حتى منتصف القرن التاسع عشر، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تأثير الروائي تشارلز ديكنز، والملكة فيكتوريا، والأمير ألبرت.

أحدث ديكنز تأثيرًا كبيرًا في طريقة الاحتفال بالكريسماس من خلال روايته «ترنيمة عيد الميلاد» (A Christmas Carol)، سنة 1843م، حيث ساهمت في تشكيل احتفالات حديثة مثل عشاء عيد الميلاد، والترانيم، والاحتفاء بالأشجار، وغرس قيم التصدق، مع الفقر المدقع لعامة الشعب، بدلاً من أن تكون مجرد عطلة تجارية.

وأثرّت الملكة فيكتوريا وزوجها الأمير ألبرت الألماني بشكل كبير في نشر تقاليد عيد الميلاد الحديثة في بريطانيا، خاصة شجرة عيد الميلاد التي بدأت في ألمانيا، وانتشرت بعد أن ظهرت صورة للعائلة الملكية الإنجليزية حول شجرة مزينة في عام 1848م، كما ساهمت الملكة في تعزيز فكرة عيد الميلاد كاحتفال عائلي للاجتماع على الطعام، مع زينة خاصة بأشرطة الورق الملونة، والشموع، والحلوى، فانتشرت هذه العادات في المنازل.

التحول الأمريكي من «القديس» نيكولاس إلى «بابا نويل»

«بابا نويل» ترجمة لكلمة فرنسية تعني «أب الميلاد»، وهو شخصية خيالية سحرية عالمية، لرجل مسن سمين ومبتهج يرتدي زيًا أحمر بفرو أبيض، ولحيته بيضاء، ويوزع الهدايا في عيد الميلاد، اقتبست شخصيته من شخصية «القديس» نيقولا (نيكولاس)، وهو أسقف يوناني عاش في آسيا الصغرى قبل حوالي 1700 سنة، واشتهر بأعماله الخيرية وتوزيعه المال للمحتاجين والأطفال، وفي القرن الخامس عشر دمجت شخصيته مع الأساطير الفلكلورية الأوروبية، فيظهر «القديس» بمعجزة في هولندا يوم عيد موته (6 ديسمبر) قادمًا من إسبانيا ليوزع الهدايا.

كانت تقاليد تقديم الهدايا موجودة بالفعل بالتزامن مع عيد «القديس» نيكولاس ورأس السنة الميلادية، في الولايات المتحدة، في أوائل القرن التاسع عشر، ويبدو أن هذه التقاليد قد تقاربت من عيد الميلاد، ويتجلى ذلك بشكل خاص في التحول الأمريكي من «القديس» نيكولاس إلى «بابا نويل»، الذي يُتتبع من خلال كتابات واشنطن إيرفينغ، وقصيدة كليمنت كلارك موور «زيارة من القديس نيكولاس» المشهورة باسم «الليلة التي تسبق عيد الميلاد» عام 1823م، التي وصف فيها كيف دخل «القديس» نيكولاس من مدخنة المدفأة ومعه الهدايا.

ومع رسوم توماس ناست له، جُرّد نيكولاس، من رتبته الدينية، ففقد رداءه الأسقفي ليتحول لشخص مسن لطيف، يُوزّع الهدايا في عيد الميلاد بدلًا من أوائل ديسمبر، احتضن الجمهور الأمريكي فكرة بابا نويل «سانتا كلوز»، وروّجت له شركات المنتجات الاستهلاكية، ومنها الكوكاكولا سنة 1931م ورسمته في إعلاناتها بشكله المعروف الآن، وأصبح عيد الميلاد احتفالًا تراثيا تجارياً(5).

الكل يريد أن يكون «بابا نويل»! 

لقد تحول الكريسماس إلى موسم تجاري، طغى على أي جوانب روحية فيه، فأظهرت بيانات مكتب الإحصاء الأمريكي أن مبيعات التجزئة والهدايا خلال موسم العطلات الأخير لعام 2024م، وصلت إلى رقم قياسي بلغ 994 مليار دولار(6).

وفي بريطانيا، أنفق الناس في موسم الكريسماس الماضي 14 مليار جنيه إسترليني(7).

الحقيقة

على المسيحيين ومن يحتفل معهم أن يرضخوا لحقيقة أن عيد الميلاد هو احتفال شتوي اجتماعي استهلاكي، أصله وثني، وأن أحد أسباب حب الناس له، وخاصةً لمن يعيشون في بيئات جغرافية يُشكل ظلام الشتاء وبرده تحديًا حقيقيًا، هو تميز عطلة منتصف الشتاء بالأضواء والموسيقى والزينة والخضرة والحفلات والأكل والشرب، لقضاء أوقات ممتعة، لكن توقع أن يكون احتفالًا روحيًا بحتًا بمولد رسول كريم هو شيء بعيد المنال، ويا ليتهم يؤمنون بما جاء في العقيدة الإسلامية؛ (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) (النساء: 171).

بعرض بدايات عيد الميلاد، اتضح أنه لم يكن لدى المسيحيين في القرون الثلاثة الأولى بعد حياة المسيح احتفال سنوي بميلاده، وعندما ظهرت الاحتفالات كانت منذ البداية مزيجًا من حفلات الشتاء التراثية الرومانية الوثنية، والاحتفالات المسيحية بولادته ابنًا لله، تعالى الله عما يقولون، ولم يكن هناك عصر ذهبي لعيد ميلاد ديني خالص، ولن يكون.. لقد حل بابا نويل محل بابا روما!

_____________________

المصادر:

(1) Roll, Toward the origins of Christmas (Netherlands, 1995) 83–86.

(2) Forbes, Christmas was not always like this, Word & World, 27 (4), 2007, 399-406.

(3) Forbes, Christmas: A Candid History (University of California, 2007) 7–10, 28–31.

(4) BBC History, Ten Ages of Christmas.

(5) Forbes, Christmas, from Saint Nicholas to Santa Claus, 67-96.

(6) NRF, Holiday season was a notable success 2024.

(7) KANTAR, Record breaking Christmas 2024.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة