الكسوف.. فرصة للتأمل وترتيب الأولويات

أسامة الهتيمي

10 أغسطس 2025

248

شهدت المملكة العربية السعودية وعدد من الدول العربية قبل أيام تفاعلاً واسعاً على منصات التواصل الاجتماعي حول ظاهرة كسوف الشمس، وهو التفاعل الذي تحول إلى «تريند» تناقل فيه الناس صوراً وتعليقات علمية ودينية وتأملية.

ورغم اختلاف مستويات التفاعل، فإن الظاهرة تمثل لنا تجلياً علمياً لما تضمنه القرآن الكريم من آيات تحدثت عن الظواهر الكونية، حيث اشتمل على العديد من هذه الآيات التي تدلل على وحدانية الله وقدرته وكيف أنه سبحانه يسير هذا الكون بحكمة واقتدار، وأن لا شيء يحدث عبثاً أو مصادفة، وهو ما أكدته الأحاديث النبوية أيضاً.

آيات معجزة

وعلى الرغم من أن بعض الآيات القرآنية التي تناولت هذه الظواهر كانت وصفاً لظواهر ملموسة ومشاهدة لدى الناس، فإن حديث الله عز وجل عن هذه الظواهر حمل إعجازاً بلاغياً وعلمياً حير كل من تدبروا القرآن وطالعوا آياته سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين.

ولقد حرص القرآن على الإشارة إلى أن سرد هذه الظواهر الكونية التي تجسد بعضاً من قدرة الله إنما هي دعوة صريحة للتأمل والتدبر فيقول الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران: 190)، ويقول سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164).

الكسوف في القرآن والسُّنة

تعد ظاهرتا الخسوف والكسوف من الظواهر الكونية التي لفتت نظر البشر منذ القدم، فدارت حولهما الكثير من التفسيرات التي كان أغلبها أسطورياً، وهما الظاهرتان اللتان ربما لم يتحدث القرآن عنهما بلفظهما الصريح، لكنه أشار إليهما ضمنياً في سياق الحديث عن تغير أحوال الشمس والقمر كآيات إلهية خاصة عند اقتراب الساعة أو في مشاهد القيامة فيقول الله تعالى: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ {7} وَخَسَفَ الْقَمَرُ {8} وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ {9} يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) (القيامة)، (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ {1} وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ) (التكوير).

لكن في مقابل ذلك، ذكرت السُّنة النبوية الكسوف والخسوف بلفظهما صراحة أكثر من مرة، ومن ذك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئًا فصلوا وادعوا الله حتى يكشف ما بكم» (رواه البخاري، ومسلم).

وروى أبو موسى الأشعري: خسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله، وقال: «إن هذه الآيات التي يرسل الله، لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره» (رواه البخاري، ومسلم).

واتساقاً مع التوجيه النبوي بالفزع عند الكسوف لذكر الله تعالى واستغفاره، فقد استن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة خاصة بالكسوف عندما شهدت المدينة المنورة ظاهرة الكسوف في السنة العاشرة من الهجرة، وهي الصلاة التي روت كيفيتها السيدة عائشة رضي الله عنه والمصحوبة بالطبع بالدعاء والتضرع لله عز وجل.


الزلازل والبراكين والكوارث.. بين الأسباب والمسبِّب | مجلة المجتمع
الزلازل والبراكين والكوارث.. بين الأسباب والمسبِّب | مجلة المجتمع
مجلة المجتمع الكويتية: منصة إعلامية رائدة تُعنى بالشأن الإسلامي وتقدم تقارير ومقالات تعزز الوعي الحضاري للأمة الإسلامية انطلاقاً من مرجعية إسلامية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهي تابعة لجمعية الإصلاح الاجتماعي بدولة الكويت، وترفع شعار "مجلة المسلمين حول العالم".
mugtama.com
×


دعوة للتذكر والتأمل

لقد جعل الإسلام من النظر في آيات الله الكونية والشرعية عبادة تقرب العبد لله، فجمع بذلك بين عبادة القلب والفكر يقول تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (يونس: 101).

وبما أن الكسوف إحدى هذه الظواهر، فهو يمثل دعوة للتأمل، فالحديث القرآني عن الخسوف والكسوف باعتبارهما من مشاهد يوم القيامة دعوة لتأمل في عمر الإنسان وقيمة الوقت وسرعة تغير وتقلب الأحوال، وأن كل نعمة –حتى لو كانت ضوء الشمس– هي إلى زوال، فضلاً عن الشعور بمدى ضآلة الحياة الدنيا وأنها فانية، وأن كل ما على ظهرها ضعيف أمام قوة الله، وهي لحظة تأمل إن صدقت كفيلة بأن تدفع الإنسان للترفع عن الكثير من الصغائر والتحسب للوقوع في المخالفات والنأي بالنفس عن استنزافها فيما لا ينفع.

ويتبع ذلك بطبيعة الحال ترسيخ اليقين بما ينتظر المؤمنين الصادقين من النعيم والجزاء الحسن، وما ينتظر العصاة والمخالفين من العذاب الشديد، فإذا كانت الشمس بما تتسم به من حرارة شديدة تجعل الحياة على الأرض مستحيلة إن اقترب كوكب الأرض منها ولو قليلاً هي شيء لا يكاد يذكر في ملك الله وكونه يحجب ضوءها وحرارتها بحركة القمر فما بالنا بأنفسنا وأجسادنا الضعيفة؟!

كذلك، فإن تأمل ظاهرة الكسوف انطلاقاً من الأحاديث النبوية التي وردت بشأنها، التي أكدت أن الظواهر الكونية ومن بينها الخسوف والكسوف لا يقعان لدافع بشري يكشف عن أن الحياة لا تتوقف عند أحد، وأن تلك الظواهر تسير وفق سنن إلهية تتجاوز البشرية جمعاء؛ الأمر الذي يوقع في القلب عظمة الله التي لا حدود لها فيما يحثه على التواضع وعدم التعالي مهما بلغ شأنه.

كما تأتي سُنة النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الكسوف دعوة للتأمل القلبي والروحي، فهي لجوء لله عز وجل وتدريب عملي على العودة إليه في حال الخوف والفزع؛ إذ لا ملجأ من الله إلا إليه.


الزلازل.. قراءة شرعية وعظة حياتية | مجلة المجتمع
الزلازل.. قراءة شرعية وعظة حياتية | مجلة المجتمع
مجلة المجتمع الكويتية: منصة إعلامية رائدة تُعنى بالشأن الإسلامي وتقدم تقارير ومقالات تعزز الوعي الحضاري للأمة الإسلامية انطلاقاً من مرجعية إسلامية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهي تابعة لجمعية الإصلاح الاجتماعي بدولة الكويت، وترفع شعار "مجلة المسلمين حول العالم".
mugtama.com
×


إعادة ترتيب الأولويات

ولعل من أهم نتائج النظرة التأملية الصادقة لظاهرة الكسوف أن تنعكس على سلوك المتأمل، فبعد إدراكه لكُنْه الحياة وحقارتها يسارع إلى مراجعة الأولويات وإعادة ترتيبها بما يحقق هدف الاستعداد الجيد لكسوف العمر وفناء الحياة.

وهنا يعي المتأمل أن عمل الصالحات والقرب من الله هو الزاد الحقيقي، أما اللهث وراء متع الحياة واكتناز المال ليس إلا وهْماً وسراباً، بل أحياناً يكونان حملاً ثقيلاً تنوء به الجبال.

ولا يعني إعادة ترتيب الأولويات في ضوء استحضار ظاهرة الكسوف وغيرها من الظواهر الكونية غض الطرف عن السعي وطلب الرزق أو العلم أو غير ذلك من مقومات الحياة، فضلاً عن التنصل من القيام بأعبائها ومسؤولياتها، فهذا مما لا يأمر به الله، وإنما المقصود أن يعيد المرء النظر في حياته وأهدافها ووسائلها، فيكون ترتيبها وفقاً لما يحقق الغاية الكبرى، وهي رضا الله مع تجديد النية في كل عمل والابتعاد في ذات الوقت عن كل شبهة توقع في محظور عقدي أو مالي أو أخلاقي.

في إطار ما سبق، فالكسوف كظاهرة ليس مجرد حدث غير عادي، أو مشهد جمالي يحرص البعض على متابعته من باب الفضول العلمي أو الإعجاب البصري، وإنما هو جرس إنذار إلهي يمنح الإنسان طاقة أو قوة دفع نفسية للقيام بما يجب القيام به، أو بشكل آخر هو دعوة إلهية صريحة لترتيب حياتنا، فإذا كنا نتهيأ ونتحسب للكسوف وغيره من الظواهر وهي الظواهر التي تستمر لدقائق أو ساعات، فأولى بنا أن نتهيأ بشكل أفضل وأعمق للقاء الله عز وجل الذي يمكن أن يأتي بغتة.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة