الكلام.. بين الداء والدواء!

قال الصحابي عمر بن العاص رضي الله عنه: «الكلامُ كالدواء، إن أقللتَ منه نفع، وإن أكثرتَ منه قتل» (الإعجاز والإيجاز).

بيان وفوائد

أولاً: التحليل اللغوي والأسلوبي:

1- العبارة قائمة على تشبيه الكلام بالدواء، هذا تشبيه بليغ قوي لأنه يقارن بين شيئين غير متماثلين ظاهريًّا (الكلام مجرد، والدواء مادي) لإبراز صفة مشتركة قوية وهي التأثير الفعّال الذي يتوقف على الجرعة.

2- تستخدم العبارة أسلوب الطباق بشكل رئيس بين الفعلين «نفع» و«قتل»؛ هذا التضاد يزيد من تأثير المعنى ويوضح الفارق الشاسع بين نتيجتي الإقلال والإفراط؛ ما يجعلهما أكثر رسوخًا في ذهن المتلقي.

3- العبارة قصيرة جدًا لكنها تحمل في طياتها حكمة كبيرة، كل كلمة فيها موظفة لخدمة الفكرة الأساسية دون حشو أو زيادة.

ثانياً: التحليل المنطقي (الفكرة الأساسية):

تقوم العبارة على مبدأ «الجرعة» أو «التوازن»، الفكرة المركزية هي: الكلام ليس جيدًا دائمًا وليس سيئًا دائمًا، قيمته تنبع من كيفية استخدامه وكميته، تمامًا مثل الدواء الذي يمكن أن يكون سببًا في الشفاء أو الموت.

ثالثاً: التحليل التطبيقي (المعنى والمضامين):

يمكن تفصيل العبارة إلى جزأين رئيسين:

1- «إن أقللت منه نفع» (فوائد الاعتدال في الكلام):

  • الإيجاز والإتقان: الكلام القليل المدروس يكون أقوى تأثيرًا وأكثر بلاغة من الكلام الكثير الفضفاض، كما قيل: «خير الكلام ما قل ودل».
  • الوقار واحترام الذات: الإقلال من الكلام يضفي على الشخص هيبة واحترامًا، ويجنبه الوقوع في الزلل أو قول ما يندم عليه.
  • الاستماع الجيد: عندما تتحدث أقل، تستمع أكثر؛ ما يمكنك من فهم الآخرين بشكل أعمق وبناء علاقات أفضل.
  • تقدير الكلمة: يجعل الكلمات التي تتفوه بها في الوقت المناسب ذات قيمة أكبر.

2- «وإن أكثرت منه قتل» (أخطار الإفراط في الكلام):

  • الوقوع في الأخطاء واللغو: كثرة الكلام تجعل الشخص معرضًا للكذب أو النميمة أو الغيبة أو قول ما يسيء إلى الآخرين دون قصد.
  • إضعاف المعنى: عندما يكون الكلام دائمًا ومستمرًا؛ تفقد الكلمات قيمتها وتأثيرها.
  • التسبب في الأذى: يمكن للكلمة الجارحة أو السرّ المنقول أن «تقتل» معنويًا؛ فتدمّر العلاقات وتسبب الأحقاد والندم.
  • إظهار الضعف: قد يفسر الإفراط في الكلام على أنه محاولة لإخفاء جهل أو قلة ثقة بالنفس.

رابعاً: امتدادات العبارة في الحياة والمجالات المختلفة:

هذه الحكمة لا تنطبق فقط على المحادثات اليومية، بل تمتد إلى مجالات عديدة:

  • النصيحة: النصيحة القصيرة في وقتها المناسب نافعة، بينما المبالغة في النصح قد تتحول إلى توجيه مزعج أو انتقاد لاذع.
  • الخطابة والتدريس: المتحدث البليغ هو من يختار كلماته بعناية ولا يطيل إطالة يملّها الجمهور.
  • السياسة والدبلوماسية: الدبلوماسي المحترف يوازن في كلامه، فلا يفضي بكل شيء ولا يخفي كل شيء.
  • وسائل التواصل الاجتماعي: تجسيد حديث للمقولة؛ حيث يمكن لبضع كلمات أن تنشر فكرة مفيدة أو أن تسبب أزمة كبيرة.

هذه العبارة حكمة خالدة تعلّمنا فن التواصل المتوازن، إنها دعوة إلى التروي والتفكير قبل الكلام، واختيار الكلمات المناسبة بالقدر المناسب في الوقت المناسب، وتذكرنا بأن الكلمة مسؤولية، وأن قوتها كقوة السيف؛ يمكن أن تبني ويمكن أن تهدم.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة