اللطف الإلهي في الرزق.. كيف يُشكل تفاوت الأرزاق جسراً للاقتصاد الإسلامي؟

اللطف الإلهي في توزيع الأرزاق من أعظم تجليات الرحمة الربانية التي تغمر الوجود، وتُعيد تشكيل نظرتنا إلى الحياة والعدالة والاختبار، فحين يتأمل الإنسان في تفاوت الأرزاق بين البشر، قد يظن لأول وهلة أن في ذلك ظلماً أو نقصاً، لكن الحقيقة تكشف أن هذا التفاوت ليس إلا لطفاً خفياً، وتدبيراً إلهياً بالغ الحكمة.

في القرآن الكريم، يتكرر الرزق بصيغ لا تقتصر على المال، بل تشمل الصحة، والعلم، والولد، وغيرها، وكل ما يُعين الإنسان على أداء رسالته في الحياة، قَالَ تَعَالَى: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) (النحل: 18)؛ مما يدل على أن النعم موزعة بطريقة لا يمكن للعقل البشري أن يُحيط بها.

تفاوت الأرزاق.. رحمة لا نقمة واختبار مزدوج

التفاوت في الأرزاق ليس نقمة، بل هو رحمة، قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ) (الشورى: 27)، فلو أُعطي الإنسان كل ما يريد، لطغى، وابتعد عن جوهر العبودية، إن المنع يكون عين العطاء، والحرمان قد يكون باباً للغنى الروحي.

يقول الإمام علي رضي الله عنه: «إن الله قسم الأرزاق بالعدل، ولم يقسمها بالحكمة فقط، ليبتلي الغني بالفقير، والفقير بالغني فكلٌ في موقعه ممتحن، وكلٌ في نصيبه مسؤول»(1)، هذا القول يُجسّد رؤية عميقة بأن الرزق ليس تفضيلًا، بل اختبارًا مزدوجًا، يُمتحن فيه كل طرف بما أُوتي، يقول الغزالي: «الرزق ليس في المال فقط، بل في العلم، والصحة، والقبول، والهداية، وكل ما يُعين الإنسان على طاعة الله»(2)، فالرزق عنده مفهوم شامل، لا يُقاس بالمادة، بل بما يُقرّب إلى الله.

الرزق كأداة للتهذيب الروحي والتّحرر من عبودية المال

 جسّد الأنبياء والأولياء هذا المعنى في حياتهم، فالنبي أيوب ابتُلي بفقد المال والصحة، لكنه لم يفقد يقينه، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة، والإمام علي وزّع بيت المال حتى لا يترك درهماً، وأبو ذر الغفاري رفض كنوز معاوية واختار الزهد، لأنه آمن أن الغنى الحقيقي في التحرر من عبودية المال، هؤلاء لم يروا في قلة المال نقصاً، بل رأوا فيها لطفاً إلهياً يُطهّر القلب، ويُصفّي الروح، ويُقرّب إلى الله.

إن فلسفة التفاوت في ضوء اللطف الإلهي تُعيد تعريف العدالة، قَالَ تَعَالَى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الزخرف: 32)، فالتفاوت ليس تفضيلاً، بل تكاملاً، ولو تساوى الناس في كل شيء، توقفت حركة الرحمة، قال الجنيد: «الرزق مقسوم، والرضا به مقام، ومن عرف الله رضي بما قسم له»(3)، وهنا يُربط الرزق بالرضا، ويُعتبر القبول بما أُعطي من علامات المعرفة بالله.

الرزق والتربية الإلهية.. بناء الرضا واليقين

يُمكن فهم الرزق لا كمجرد عطاء مادي، بل كوسيلة إلهية لتشكيل النفوس، والرضا، والاجتهاد، فاختلاف الأرزاق بين الناس جزء من نظام تربوي إلهي يُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان وربه، ويُهذّب دوافعه الداخلية.

الرزق في الإسلام يُعدّ من القضايا الإيمانية المرتبطة بالقدر، قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «.. فيُؤْمَرُ بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، ويُقَالُ له: اكْتُبْ عَمَلَهُ، ورِزْقَهُ، وأَجَلَهُ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ..»(4)، هذه الحقيقة التكوينية تجعل الرزق وسيلة لتربية النفس، عن طريق التوازن الاجتماعي لكونه ضرورة لعمارة الأرض، بالإضافة إلى أن المال وسيلة لا غاية، بل هو تجلٍّ من تجليات الرحمة الإلهية، يُعطى للعبد بما يصلحه، لا بما يشتهيه، قال الجيلي: «الرزق هو صورة اللطف، فإن الله يرزقك بما يهيئك للترقي، لا بما يثقلك عن السير»(5).

الاقتصاد الإسلامي.. تجلّي الرحمة في البنية التشريعية

الاقتصاد الإسلامي لا يُبنى على مجرد قوانين تبادلية، بل على منظومة رحمة تُراعي الفقير قبل الغني، وتُوازن بين الحقوق والواجبات؛ الزكاة، والوقف، وتحريم الربا ليست مجرد تشريعات، بل تجليات لرحمة الله في البنية الاقتصادية.

ولعل أبرز تجليات الرحمة في الاقتصاد الإسلامي مبدأ الزكاة، الذي لا يُنظر إليه كضريبة، بل كطهارة للمال والنفس، وكوسيلة لإعادة توزيع الثروة بطريقة لا تُشعر المحتاج بالذل والمنة، قال الإمام علي: «إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُنع غني»(6)، هذا القول يُجسّد فلسفة الرحمة في الاقتصاد، حيث يُصبح المال وسيلة للعدل، لا أداة للهيمنة.

أما تحريم الربا، فهو تجلٍّ آخر للرحمة، قَالَ تَعَالَى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275)، إذ يمنع استغلال حاجة الإنسان، ويُحرّم تحويل المال إلى سلطة تُذلّ المحتاج، فالإسلام يُشجّع التجارة التي تقوم على التراضي، والعدل، وهي صور من الرحمة العملية.

الرزق والاستقرار النفسي.. بناء الأمن الوجودي

الرزق والاستقرار النفسي وجهان متكاملان في التجربة الإنسانية، يتفاعلان بعمق في وجدان الفرد، ويؤثر كل منهما في الآخر بطريقة تتجاوز البُعد المادي إلى الأفق الروحي والتربوي، في التصور الإسلامي، لا يُنظر إلى الرزق على أنه مجرد كسب دنيوي، بل هو تجلٍّ من تجليات الرحمة الإلهية، وأداة لتربية النفس، وتحقيق الطمأنينة، وتثبيت الإنسان في مواجهة تقلبات الحياة.

الاستقرار النفسي لا يتحقق بكثرة المال، بل بتحقق الرضا، واليقين، والتوازن الداخلي، وقد أشار العلماء إلى أن الطمأنينة الحقيقية تنبع من الثقة بأن الرزق مقدّر، وأنه لا يُنقصه حرص، ولا يزيده قلق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «.. وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»(7)، وهذا الحديث يُرسّخ أن السعي مطلوب، وأن الرزق لا يُنال بالجزع، بل بالتوكل.

إن الرزق حين يُفهم في ضوء الرحمة الإلهية، يُصبح مصدرًا للسكينة، ويُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والمال، من علاقة استهلاك إلى علاقة عبودية، ومن خوف إلى طمأنينة.




__________________

(1) انظر: عاشور، على، 5000 حكمة من حكم الإمام على، الناشر: مؤسسة التاريخ المصري للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، لبنان، 2005، ص 414.

(2) انظر: الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، منهاج العابدين، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1355، ص 25.

(3) انظر: الكلاباذي، أبو بكر محمد بن إسحاق البخاري، التعرف لمذهب أهل التصوف، نشر بتصحيح: آرثر جون أربري، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، 1933، ص223.

(4) أخرجه مسلم (2643) باختلاف يسير، رواه عبدالله بن مسعود.

(5) انظر: الجيلي، عبدالكريم بن إبراهيم، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، الناشر: مطبعة محمد على صبيح وأولاده، ج2، مصر، 1368، ص 55.

(6) انظر: عاشور، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر التونسي، التحرير والتنوير، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، الناشر: الدار التونسية للنشر، ج 1، تونس، 1984، ص 416.

(7) حديث رقم (9891)، والبغوي في شرح السُّنة، حديث رقم (4111)، بسند صحيح، رواه عبد الله ابن مسعود.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة