المقاومة الثقافية في مواجهة الاحتلال

تواجه أمتنا اليوم تحديات معقدة، تتطلب منا وقفة جادة لفهم طبيعتها وآثارها على النسيج الاجتماعي والديني، لعل أبرزها ما يعرف بالغزو الثقافي أو الغزو الفكري، إذ شمرت المنصات الغربية التي تتغلغل الآن في بيوتنا سواعدها؛ ساعية إلى تفكيك نسيج الأسرة المسلمة عبر ترويج ثقافات لا أخلاقية تفكك أسس التضامن الاجتماعي والترابط القيمي والتعاليم الدينية والأخلاقية التي يجب أن تكون عليها كل أسرة مسلمة.

تمثل هذه الثقافات الزاحفة إلينا هجومًا شرسًا يستهدف قيمنا الإسلامية وإرثنا الأصيل، وهو ما يستلزم يقظة فكرية ودراسة منهجية للرد بأساليب علمية مدروسة، لعل أهما دعم مقاومة الشباب المسلم وتحصينه تجاه هذه الأسلحة الغربية الفتاكة.

ولا يقل خطورة عن ذلك ما يعرف بـ«الاستشراق الجديد»، الذي يتجسد في مشاريع تمويلية غربية تزعم نيتها إصلاح الإسلام تحت شعارات حقوق المرأة والتحديث، لكن الهدف الحقيقي يكمن في طمس الثوابت الشرعية وإعادة صياغة التراث الإسلامي وفق معايير غربية، إذ تستغل هذه المشاريع قضايا الإصلاح الاجتماعي لتبرير تدخلاتها في مجتمعاتنا.

لكن المسألة الأهم والتحدي الأخطر يتمثل في التنازل الداخلي، حيث أصبحنا نلاحظ اليوم ميل أغلب الشباب المسلم إلى التقليد الأعمى للنماذج الغربية في الملبس والمأكل، وهو مؤشر خطير على ما وصلت إليه الحال من الاستقطاب، والبعد التدريجي عن الهوية الثقافية والدينية، كما أن هذا الانجراف لا يمثل مجرد تغيير سطحي كما يعتقد البعض، بل يشكل تهديدًا جوهريًا لهويتنا الإسلامية، حيث يفقد الفرد وخاصة فئة الشباب الرابط الأساسي مع تراثه ومبادئه التي ميزت حضارتنا عبر العصور.

الشباب.. والمعركة الثقافية

لا شك أن شباب الإسلام الواعين هم الآن حجر الزاوية في المعركة الثقافية المعاصرة، وعلى أكتافهم الحمل الأكبر في هذا الجهاد، فهم من ناحية الأكثر فهمًا لمتطلبات نظرائهم من الشباب المستهدفين بهذا الغزو المقيت، ومن ناحية أخرى يمثلون القوة الدافعة القادرة على تبني إستراتيجيات فاعلة للحفاظ على الهوية وإعادة صياغة الحضور الثقافي في فضاءات العصر الرقمي الذي يعد المقر الأول لهذه الحرب الفكرية المدمرة.

وينبغي للشباب المسلم الواعي، المؤمن بقضيته، أن ينشط في ساحة التأثير الرقمي، وخاصة على منصات التواصل الاجتماعي، ليدافع عن دينه، وعاداته، وتقاليده، وأخلاق الأمة الإسلامية، وعلى صعيد المبادرات المجتمعية، ينبغي أن يتولى الشباب دورًا محوريًا في الحفاظ على الرموز المعمارية والثقافية؛ فقد شهدنا في العديد من دولنا الإسلامية حملات لترميم المساجد الأثرية، مثل صيانة مسجد عقبة بن نافع في تونس، الذي يعد رمزًا للنهضة الثقافية والتمسك بالجذور التاريخية.

كما برز في مجال الإعلام البديل عدد من المنصات التي تحارب بكل قواها وعناصرها الغزو الفكري، وتسهم بعقول مفكريها رجالًا ونساءً شيوخًا وشبابًا في توجيه الوعي الثقافي لدى كل أفراد الأمة؛ ولعل أبرز مثال على هذه المنصات مجلة «المجتمع» التي ألهمتنا لكتابة مثل هذه المقالات، حرصًا منها على شحذ همم الشباب المسلم للحفاظ على هويتهم الإسلامية في مواجهة الحروب الثقافية التي تتعرض لها أمتنا، كما لم تغفل القنوات الأخرى التي ظهرت في بلاد أوروبية عن هذا الدور، فمثلاً أسهمت قناة «إسلام تيوب» تشكيل صوت الأقليات المسلمة في الغرب وقدمت فضاءً مفتوحًا للحوار وتبادل الخبرات بعيدًا عن الأطر الثقافية الغربية.


المقاومة الثقافية.. نقد الاستشراق نموذجاً |  مجلة المجتمع الكويتية
المقاومة الثقافية.. نقد الاستشراق نموذجاً | مجلة المجتمع الكويتية
ليست المقاومة مبدأ أو مفهوماً نظرياً مجرداً، لكنها...
www.mugtama.com
×


فلسطين.. أدب المقاومة وثقافة الصمود

وعندما نريد الاستشهاد بصور حية لتجدد الروح والهوية في مواجهة التحديات، نجد فلسطين المحتلة الخيار الأمثل، وصاحبة الدور البارز، ففيها تجلى صمود الهوية الإسلامية والعربية عبر عدة مبادرات، منها إعادة إحياء النسخ اليدوية من القرآن الكريم وتوزيعها في القدس ردًا على محاولات تهويد المدينة.

كما امتدت مقاومة هذه الأرض المقدسة لتشمل إحياء التراث من خلال التطريز الفلسطيني الذي تحول إلى رمز للانتماء، وإلى المطبخ الفلسطيني الذي أصبح وسيلة لسرد التاريخ، حتى إن منصات وسائل التواصل الاجتماعي في أغلب الأحيان أصبحت ساحات لنشر الأغاني الشعبية والحكايات الموروثة، التي لا شك تخلق جسورًا بين الأجيال وتعرفها بقضية أمتنا المركزية الثابتة حتى زوال العدو الصهيوني من هذه الأرض الطاهرة.

وفي فلسطين أيضاً، لم يقتصر «أدب المقاومة» على النصوص الأدبية فحسب، بل تحول إلى سلاح غير تقليدي؛ إذ لم تكن كتابات أدباء أبناء هذا الشعب المنكوب مجرد نصوص، بل حولت معاناتهم اليومية إلى ملاحم تقرأ في المدارس وتغنى في المواكب؛ ما أسهم في تخليد الروح الوطنية وإرساء وعي جمعي رافض للانكسار.

وفي حرب العزة، برهن أبطال غزة على قوة صمودهم ومقاومتهم المستمرة منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» المباركة، التي حملت رسالة إلى العالم بأسره بأن هذه الأراضي لا تزال تفخر بأبطالها الذين لم ينل منهم أي غزو فكري أو ثقافي، ولم تزعزع عقيدتهم الراسخة تجاه عدوهم، فلم يكن للقصف أن يمحو حكايات الأجداد المتوارثة، ولا للطغيان الصهيوني الغاشم أن يقتلع جذور الهوية المزروعة في كل حجر وشجرة زيتون على هذه الأرض الطاهرة.


ثقافة المقاومة.. فلسطين نموذجاً |  مجلة المجتمع الكويتية
ثقافة المقاومة.. فلسطين نموذجاً | مجلة المجتمع الكويتية
إن من سمات الثقافة الانتشار والشيوع والقبول والثبا...
www.mugtama.com
×


تعزيز المقاومة الثقافية

تشير تقارير صادرة عن عدد من مراكز الفكر العربية إلى أن تعزيز المقاومة الثقافية لدى الأجيال الجديدة في وجه تحديات العولمة والاحتلال لا بد أن ينطلق من إطار إستراتيجي متكامل، يجمع بين استنهاض التراث الديني وتفعيل الأدوات المعاصرة لخدمة الهوية الإسلامية، ويتطلب أيضًا ترسيخ التربية الثقافية والدينية، ودعم الإنتاج الأدبي والفني الذي يجسد قضايا الأمة ويمنح الأجيال الناشئة أدوات فاعلة للصمود، وفيما يلي أبرز الاستخلاصات في هذا الإطار:

- بناء تحالفات إسلامية عابرة للحدود لتوحيد الجهود وتبادل الخبرات بين الدول والمجتمعات، لتعزيز المبادرات المحلية في البلدان الإسلامية وحماية الهوية الإسلامية المشتركة بين هذه الشعوب.

- تأسيس منصات للحوار والتآزر الفكري لتعزيز التواصل الثقافي بين الشعوب الإسلامية، وإتاحة مجال لتنسيق الجهود التربوية في مواجهة التحديات المعاصرة.

- الابتكار في عرض التراث الإسلامي بات حاجة ملحة، لا سيما من خلال الوسائط التقنية التفاعلية، كتطبيقات تسرد السيرة النبوية أو تبسط الفقه بلغة جاذبة تتناسب مع ذهنية الجيل الرقمي.

- توعية الأسر المسلمة بأهمية التربية الإسلامية للناشئة وترسيخ ثقافة المقاومة لديهم، وربط الأبناء بتاريخهم وقيمهم، وتعزيز وعيهم وقدرتهم على التمييز والتفاعل الواعي مع التحديات التي تستهدف هويتهم.

- تعزيز الخصوصية الثقافية باعتبارها حصانة مجتمعية ضد محاولات التفكيك الثقافي، من خلال الحفاظ على الهوية المحلية، ورفض النمطية التي تفرضها العولمة.

- إعادة إحياء الأدب المقاوم باعتباره خطوة جوهرية في التعبير عن روح الأمة، إذ يسهم في بث رسائل الوعي والكرامة، ويحفز على الصمود من خلال سرد حكايات النضال التي تلهم الأجيال وترسخ فيهم قيم المقاومة والثبات.

ومن هنا يتضح أن المقاومة الثقافية جهاد دائم، ومسؤولية تقع على عاتق كل مسلم، كما أن حماية الهوية الإسلامية أمانة تتطلب منا جميعًا الكفاح في مسار الجهاد الثقافي عبر استنهاض التراث وإبداع وسائل مقاومة جديدة، لتظل ثقافتنا الإسلامية منارة تضيء درب الأمة نحو مستقبل يعكس عزيمتها ويحفظ مبادئها الثابتة.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة