المنهج القرآني في الاستدلال على وجود الله (2)

د. محمود محمد مزروعة

 

نستكمل في هذا المقال، تسليط الضوء على المزايا التي امتاز بها المنهج الاستدلالي في القرآن الكريم على وجود الله وتعالى وعظيم قدرته وجليل حكمته.

من مميزات المنهج القرآني في الاستدلال ما يأتي:

ثالثًا: أن الأدلة القرآنية تعتمد على الأمور الموضوعية الواقعية التي يتعامل معها الإنسان في كلّ وقت، مثل قوله تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21)، وقوله سبحانه: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ {24} أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً {25} ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً {26} فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً {27} وَعِنَباً وَقَضْباً {28} وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً {29} وَحَدَائِقَ غُلْباً {30} وَفَاكِهَةً وَأَبّاً {31} مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (عبس).

وهذا من شأنه أن يقرّب الدليل، وييسّر إدراكه، ويمهّد النفس لتقبله، ويقوي الالتزام به، وفي نفس الوقت يقطع السبيل على المجادلين المعاندين، فلا يتيح لهم سبيلًا إلى جحده أو الطعن فيه.

هذا بخلاف أدلة الفلاسفة والمتكلمين التي تعتمد على أسس نظرية، أو تحتوي على بعض الأمور الموضوعية لكنها لا تدرك بسهولة، ولا يمكن التسليم بها بيُسْر. وعلى سبيل المثال: دليل الإمكان، يعتمد على تقسيمات منطقية محضة، تفتح المجال أمام الجدل واللجاج، وكذلك دليل الحدوث يعتمد في بعض جوانبه على أمور موضوعية، ولكنها مصوغة صياغة منطقية نظرية تجعل إدراكها صعب المنال على المتخصصين، فضلًا عن غيرهم، بالإضافة إلى أن كلّ مقدمة من مقدمات الدليل تحتاج إلى دليل، والدليل إلى دليل وهكذا، ووسط ركام الأدلة، وأدلة الأدلة، تصاب النفس بالسأم والملل، وتنصرف عن مقصودها الأصلي.

رابعًا: أن الأدلة القرآنية تعتمد على ما ركزه اللهُ سبحانه في الفطرة الإنسانية من السعي إلى معرفته، والدينونة له؛ ولذا فإن القرآن الكريم لا يسوق الأدلة على وجود الله سبحانه بشكل مباشر، ولكنه يعتمد على البذرة المغروسة في فطرة الإنسان، فهو يغذيها وينميها ويوجه الخطاب إليها، ومن هنا نجد أن أدلة القرآن الكريم تقوم على لفت الأنظار إلى قدرة الله سبحانه، وعظيم إبداعه، وجليل حكمته في صنعه، وجزيل نعمه على خلقه، والذي يقرأ حديث القرآن عن وجود الله سبحانه لا يكاد يستشف منه أنه حديث إلى مُنْكِرٍ لوجود الله تعالى بقدر ما يشعر بأنه حديث إلى غافلٍ عن هذا الوجود، فكأنّ الاعتراف واقع، ولكن الداء في الغفلة عما يجب لهذا الموجود.

وحديث القرآن الكريم بهذه الكيفية يلفت انتباه الإنسان إلى فطرته التي لوّثها وانحرف بها الوسواس الخناس، ويمهّد الطريق لعودة الإنسان إلى ربه، وذلك بإشعاره أنه ليس من شأنه أن يكون منكرًا بل غافلًا، واقرأ -على سبيل المثال بالإضافة إلى الآيات السابقة- قول الله تعالى من سورة «يونس»: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ {31} فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس).

خامسًا: أن القرآن الكريم لا يسوق الدليل على صورة عامة مجملة، ولكنه يسوق الأدلة على هيئة جزئية مفصّلة؛ وبذلك يغني عن التفصيل بعد ذلك، وما يحتويه التفصيل من تفريعات قد تلفت النفس عن الهدف الأصلي، فضلًا عن أن الأمور الجزئية تدركها النفس بسهولة ويُسر، واقرأ في ذلك -إضافة إلى ما سبق- قوله سبحانه وتعالى:

(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ {10} يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {11} وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).. إلى قوله تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل: 18).

وذلك عكس الأدلة الوضعية، فهي تقوم على التعميم، ثم تنتقل إلى التفصيل، ويحتاج التفصيل إلى تفصيل، وهذا من شأنه أن ينفّر النفس ويجعلها تشعر بالملل والسأم، ويصرفها عن الهدف المنشود.

سادسًا: أن القرآن الكريم ينوّع من الأدلة التي يذكرها في المجال الواحد؛ فأنت تستطيع في أيّ مجال يتحدّث فيه القرآن عن عظيم صنع الله سبحانه أن تجد مجموعة من الأدلة المنسقة المرتبة ترتيبًا بديعًا، بحيث لا تقف من بديع صنع الله سبحانه على مثال واحد بل أمثلة كثيرة متعددة ومتنوعة، فأنت تجد نفسك محاصَرًا بهذه الأدلة التي تأخذ بلُبّك، وتأسر فؤادك، ولا تدعك إلّا وقد أسلمت نفسك للعليم الحكيم. واقرأ في ذلك -بالإضافة إلى كل الآيات السابقة- قوله تبارك وتعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ {20} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {21} وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ {22} وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).. إلى قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم: 27).

وبعدُ، فهذه بعض الميزات التي استطعنا أن نلمح إليها من ميزات المنهج القرآني في حديثه عن وجود الله -سبحانه وتعالى- وصفاته وأفعاله.

ونؤكّد أخيرًا ما أشرنا إليه ابتداءً من أننا لا نستطيع أن نحيط بتلك الميزات، وحسبنا أن نلفت النظر إلى شيء منها على قدر الجهد والطاقة، فهو حديث العليم الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.




___________________

المصدر: مجلة «كلية أصول الدين والدعوة الإسلامية» بالمنوفية، جامعة الأزهر، المجلد (1)، العدد (1)، عام 1981م، ص106.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة