المواطنة في ظل المرجعية الإسلامية (تراث)

أ.د. محمد عمارة

06 أغسطس 2023

4857

هل المواطنة لا بد أن تكون علمانية؟!‏ وهل تحقُّقُها يستلزم التخلي عن المرجعية الإسلامية في القانون والتشريع؟

إن المواطنة مفاعلة -أي تفاعل- بين الإنسان المواطن والوطن الذي ينتمي إليه ويعيش فيه‏،‏ وهي علاقة تفاعل‏؛ لأنها ترتِّب للطرفين وعليهما العديد من الحقوق والواجبات‏؛ فلا بدَّ لقيام المواطنة أن يكون انتماء المواطن وولاؤه كاملين للوطن‏، يحترم هويته ويؤمنُ بها وينتمي إليها ويدافع عنها بكل ما في عناصر هذه الهويَّة من ثوابت اللغة والتاريخ والقِيَم والآداب العامَّة‏، والأرض التي تمثِّل وعاءَ الهوية والمواطنين،‏ وولاء المواطن لوطنه يستلزم البراء من أعداء هذا الوطن طالما استمرَّ هذا العداء‏.‏

وكما أن للوطن هذه الحقوق -التي هي واجبات وفرائض- على المواطن‏،‏ فإن لهذا المواطن على وطنه ومجتمعه وشعبه وأمته حقوقًا‏ كذلك، من أهمها المساواة في تكافؤ الفرص،‏ وانتفاء التمييز في الحقوق السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة بسبب اللون أو الطبقة‏ أو الاعتقاد‏،‏ مع تحقيق التكافل الاجتماعي الذي يجعلُ الأمَّة جسدًا واحدًا،‏ والشعب كيانًا مترابطًا، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر أعضاء الجسد الواحد بالتكافل والتضامن والتساند والإنقاذ‏.‏

وإذا كان التطور الحضاري الغربي لم يعرف المواطنة وحقوقها إلا بعد الثورة الفرنسيَّة في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي؛ بسبب التمييز على أساس الدين بين الكاثوليك والبروتستانت‏،‏ وعلى أساس العِرْق بسبب الحروب القوميَّة، وعلى أساس الجنس بسبب التمييز ضد النساء، وعلى أساس اللون في التمييز ضد الملوَّنين‏؛ فإن المواطنة الكاملة والمساواة في الحقوق والواجبات قد اقترنتْ بظهور الإسلام، وتأسيس الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة سنة 1هـ (‏622‏م‏) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحت قيادتِه‏.

فالإنسان -في الرؤية الإسلاميَّة- هو مطلق الإنسان، والتكريم الإلهي هو لجميع بني آدم‏ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: ‏70)، والخطاب القرآني موجَّه أساسًا إلى عموم الناس، ومعايير التفاضل بين الناس هي التقوى المفتوحة أبوابها أمام الجميع: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: ‏13)‏.

بل قد جعل الإسلام الآخر الديني جزءًا من الذات،‏ وذلك عندما أعلنَ أن دين الله على امتداد تاريخ النبوات والرسالات هو دين واحد،‏ وأن التنوُّع في الشرائع الدينيَّة بين أمم الرسالات إنما هو تنوُّع في إطار وحدةِ هذا الدين؛ (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) (المائدة: 48‏).

ولقد وضعت الدولة الإسلاميَّة فلسفة المواطنة هذه في الممارسة والتطبيق، وقننتها في المواثيق والعهود الدستوريَّة منذ اللحظة الأولى لقيام هذه الدولة في السنة الأولى للهجرة‏؛ ففي أوَّل دستور لهذه الدولة تأسَّست الأمَّة على التعدديَّة الدينية‏،‏ وعلى المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين المتعدِّدين في الدين والمتحدين في الأمَّة والمواطنة‏،‏ فنصُّ هذا الدستور -صحيفة دولة المدينة- على أن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وأن لهم النصر والأسوة مع البر من أهل هذه الصحيفة‏،‏ ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين‏..‏ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم‏،‏ وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم. هكذا تأسست المواطنة في ظلِّ المرجعية الإسلامية منذ اللحظة الأولى‏.‏

_____________________

المصدر: موقع «الإسلام اليوم».


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة