الميراث المعطَّل.. عندما يتحول الحق الشرعي إلى فتنة اجتماعية

يُعد الميراث
نظامًا إلهيًا دقيقًا وضعه الإسلام لضمان انتقال الثروة بشكل عادل ومنظم بين
الأفراد، وقد فصّل القرآن الكريم أحكام الميراث تفصيلاً دقيقًا، ووردت في السُّنة
النبوية الشريفة العديد من التوجيهات التي تؤكد أهمية الإسراع في توزيع التركة على
مستحقيها، لتجنب أي تأخير قد يؤدي إلى الظلم أو النزاعات بين الورثة.
ومع ذلك، يشهد
الواقع أحيانًا تأخيرًا في هذا التوزيع، قد يكون ناتجًا عن رغبة بعض الورثة في
الاستفادة الشخصية من التركة على حساب الآخرين، ما يترتب عليه عواقب وخيمة لا
تقتصر على الجانب المادي فحسب، بل تمتد لتشمل الجوانب الشرعية والاجتماعية
والنفسية.
الإطار
الشرعي وتأكيد الإسلام على سرعة توزيع التركة
حث الإسلام على
الإسراع في قضاء الديون وتنفيذ الوصايا وتوزيع الميراث فور وفاة المورث، ولا يجوز
لأحد منع الورثة من استلام أنصبتهم أو المماطلة في توزيعها دون سبب شرعي معتبر أو
رضا جميع الورثة؛ وذلك لما يترتب على التأخير من مفاسد، يقول الله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (النساء)؛ وهذا يُظهر مدى أهمية الالتزام بأحكام المواريث، وأن
تجاوزها أو تعطيلها يعتبر تعديًا لحدود الله.
كما ورد عن
النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤكد ضرورة الإسراع في تقسيم التركة، فعن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى
يقضى عنه»(1).
وإن لم يكن هذا
الحديث خاصًا بالميراث مباشرة، إلا أنه يُسلط الضوء على أهمية تبرئة ذمة الميت من
الحقوق المتعلقة به قبل دفنه، والميراث حق من حقوق الورثة التي تثبت لهم بعد وفاة
مورثهم، والورثة مسؤولون عن تبرئة ذمة المورث من خلال توزيع الميراث، وعزل حصة
الوصية، وسداد الديون المتعلقة به، حتى لو كانت هذه الديون حقوقًا للورثة أنفسهم(2).
كذلك، فإن
الإسراع في توزيع الميراث يندرج تحت عموم قضاء الحقوق وتسليم الأمانات لأهلها التي
حث الله عز وجل عليها في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا) (النساء: 58).
العواقب
الشرعية لتأخير توزيع الميراث
1- وقوع الإثم
على الحابسين للميراث: تأخير توزيع الميراث دون وجه حق يُعد أكلاً لأموال الناس
بالباطل، وقد نهى الله عز وجل عن ذلك في قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)
(البقرة: 188)، وهو من الكبائر التي نهى عنها الإسلام، فالمالك الحقيقي
للميراث هم الورثة، وحجبه عنهم ظلم بيّن، ويتحمل المتسبب وزر ذلك.
وقد ورد في
الحديث الشريف عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَطَعَ
مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَطَعَ اللَّهُ بِهِ مِيرَاثَهُ مِنَ
الْجَنَّةِ»(3)؛ ويعني أن من حرَم وارثًا من حقه في الميراث الذي فرضه
الله ورسوله، فإن الله تعالى يعاقبه بحرمانه من ميراثه في الجنة يوم القيامة، وهو
عقاب شديد يدل على خطورة هذا الفعل.
2- تعطيل مصالح
الورثة: قد يكون بعض الورثة في حاجة ماسة لنصيبهم من الميراث لقضاء حوائجهم
الأساسية، أو لسداد ديونهم، أو للزواج، أو للاستثمار، وتأخير التوزيع يحرمهم من
هذه المصالح، وربما يُعطل حياتهم.
3- استحقاق
الورثة مردود مالي للتأخير في القسمة: مماطلة وامتناع من يحوز التركة عن قسمتها
يأخذ حكم استغلال الغاصب للعين المغصوبة(4)، وهو عند الشافعية «الاستيلاء
على ملك الغير بغير حق»(5)؛ كانتفاع بعض الورثة بسكن عقار أو غلته بدون
إذن باقي الورثة ورضاهم، فهو غصب لحقهم، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يَحِلُّ مالُ
امرئ مُسلمٍ إلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنهُ»(6)؛ دل الحديث على حرمة أكل مال
المسلم بغير حق إلا بطيب من نفسه وإن قل.
ويلزم الغاصب
(من كانت التركة بيده) رد المغصوب، ورد أُجره المِثل مقابل ما انتفع به من التركة
للورثة لاستيفائه مال غيره بغير حق، لأن المنافع أموال، وقد عطلها على مالكها
بغصبه أصلها، فهو غاصب لها أيضًا ويلزمه رد بدلها وهو أجره المِثل(7).
4- التأخر في
إخراج الزكاة عن التركة: لا تسقط الزكاة بموت المورث على أقوال أهل العلم من
المالكية والحنابلة والشافعية(8)، لقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي
بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (النساء: 11)، ودلت الآية على أن حق الورثة يكون بعد
إخراج الديون، والزكاة حق الله بمنزلة الدين.
وبالتالي، قد
تجب الزكاة في مال المورث فيموت قبل إخراجها، أو تجب الزكاة في المال بعد وفاة
المورث وقبل القسمة، ونظرًا لكون التركة معلقة بدون تقسيم والمال على الشيوع بين
الورثة قد يتراخى الورثة في إخراج الزكاة الواجبة عليهم في التركة، أو الواجبة على
مورثهم قبل الوفاة، ما يترتب عليه ضياع حق الفقير، ويتحمل من يتعمد تأخير قسمة
التركة وزر ذلك(9).
العواقب
الاجتماعية لتأخير توزيع الميراث
1- تفكك الروابط
الأسرية ووقوع الشقاق: يُعد تأخير الميراث أحد الأسباب الرئيسة لاندلاع الخصومات
والنزاعات، فالأطماع والمصالح المتضاربة قد تدفع بعض الورثة إلى حجب الميراث؛ ما
يفسد روابط القرابة، ويُورث الشحناء والبغضاء، وتتدهور العلاقات الأسرية، وتُصبح
الأسرة بيئة مشحونة بالتوتر والصراع بدلاً من أن تكون مصدرًا للسند والدعم، وقد
يؤدي ذلك إلى القطيعة التامة بين أفراد الأسرة.
وقد يؤدي
التأخير إلى تدخل أطراف خارجية تسعى للاستفادة من النزاع بين الورثة؛ ما يزيد من
تعقيد الأمور، ويُدخل أبعادًا جديدة من الصراع قد يصعب حلها، وهو ما يتعارض مع
مقاصد الشريعة التي تهدف إلى الحفاظ على التماسك الأسري.
2- انتشار
الظلم: يشعر الورثة المحرومون من حقهم بالظلم والإجحاف؛ ما يُولد لديهم مشاعر
سلبية تجاه حابس الميراث، ويُؤثر على استقرارهم النفسي.
3- الذم
الاجتماعي: منع وتعطيل الميراث يُعد من التصرفات المذمومة اجتماعيًا، وقد يتعرض
الشخص الذي يمنع الميراث للذم والإدانة من قبل المجتمع، ويُنظر إليه على أنه شخص
ظالم ومتعدٍّ على حقوق الآخرين؛ ما يؤثر على سمعته ومكانته الاجتماعية.
4- تعطيل حركة
الاقتصاد: الميراث قد يُشكل رأسمال يُمكن استثماره وتحريكه في عجلة الاقتصاد،
وتجميد الميراث يُؤدي إلى تجميد هذه الأموال وتعطيل دورها في التنمية الاقتصادية،
وربما يفقد الورثة جزء من التركة بسبب الإهمال والتغيرات الاقتصادية التي قد تؤثر
على قيمة الأصول، ويفقد الورثة فرصًا للنمو المالي.
5- الوصول إلى
ساحات القضاء: في كثير من الأحيان، تؤدي الخلافات المستمرة حول الميراث إلى اللجوء
إلى المحاكم؛ ما يُكلف الورثة جهدًا ووقتًا ومالاً، وقد يُزيد من تفاقم المشكلة
بدلاً من حلها وديًا.
حفظ
الحقوق وتماسك الأسر.. غاية الميراث وحِكمته
إنّ الالتزام
بما فصّلته الشريعة الغراء في أمر الميراث ليس مجرد التزام بحدود الله فحسب، بل هو
السبيل لحفظ الحقوق وصمام الأمان لاستقرار الأسرة والمجتمع، وعلى حابسي الميراث
تقوى الله والخوف من عقابه، وليتذكروا أن ما يأخذونه بغير حق سيسألون عنه يوم
القيامة، فعندما تُوزع الحقوق لأصحابها في أوانها، تُجفف منابع الخصومة، وتُفتح
أبواب البركة، فيتحقق بذلك صلاح الحال والمآل، وتُصان الحقوق من الضياع، وتُدرأ
المفاسد قبل وقوعها.
إن الإسراع في
تصفية التركات وتوزيعها وفقًا للأنصبة الشرعية امتثال لأوامر الله وتجسيد للعدل
الإلهي، وضمان لاستمرارية الود، وتحقيق للمصلحة العامة التي تنشدها كل نفس مطمئنة،
فبذلك يُصان حق الميت وتُبرأ ذمته، ويُحفظ حق الأحياء وتُنمى أموالهم، ويسود الأمن
والوئام في ربوع الأسرة والمجتمع.
__________________
(1) الترمذي،
محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، سنن الترمذي وهو الجامع الكبير، دار التأصيل مركز
البحوث وتقنية المعلومات، المجلد الثاني، كتاب الجنائز (1100)، الطبعة الأولى
2014م، ص 310.
(2) نغم إسماعيل
محمود عبد اللاه، تأخير قسمة التركة والآثار المترتبة عليه- دراسة فقهية مقارنة،
مجلة كلية الشريعة والقانون بتفهنا الأشراف- دقهلية، العدد (25)، الجزء الثاني،
2022م، ص1421.
(3) البيهقي،
أبو بكر أحمد بن الحسين. شعب الإيمان. تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول. بيروت:
دار الكتب العلمية، 1410هـ / 1990م. الجزء (11)، حديث (6379)، ص223.
(4) نغم إسماعيل
محمود عبد اللاه، مرجع سابق، ص1445.
(5) الجويني،
عبدالملك بن عبد الله بن يوسف. نهاية المطلب في دراية المذهب، تحقيق: عبد العظيم
محمود الديب، دار المنهاج، جدة الجزء 7، الطبعة الأولى، 2007م، ص 169.
(6) الألباني،
محمد ناصر الدين. صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير)، المحقق: زهير
الشاويش، المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الثالثة، 1988م، 7622-2780(صحيح)، ص
1268
(7) الماوردي،
على بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي
رضي الله عنه، تحقيق على محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية،
بيروت- لبنان، الجزء السابع، كتاب الغصب، الطبعة الأولى، 1994م، ص136.
(8) الماوردي،
على بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، الحاوي الكبير، مرجع سابق، الجزء الثالث،
كتاب الزكاة، الطبعة الأولى، 1994م، ص 368.
(9) نغم إسماعيل
محمود عبد اللاه، مرجع سابق، ص1457.