الهجرة.. رحلة البحث عن حياة أفضل

المجتمع

27 أغسطس 2019

185

 الهجرة البشرية ظاهرة قديمة العهد تمتد إلى الفترات الأولى من تاريخ البشرية، ولا تزال الهجرة الخارجة والوافدة في العصر الحديث تتيح فرصاً وتحديات للدول والأفراد، فقد أضحى التنقل الدولي ممكناً أكثر من ذي قبل، ويعزى ذلك جزئياً إلى ثورة الاتصالات والمواصلات القادرة على تقليص المسافات وانخفاض تكاليف السفر، وثمة عوامل متعددة تدفع إلى الهجرة تتعلق بالازدهار الاقتصادي، وعدم المساواة، والديموجرافيا، والعنف والنزاع، والتغير البيئي، وتهاجر الأغلبية الساحقة من الناس إلى دول أخرى لأسباب مرتبطة بالعمل والأسرة والدراسة.

وبالرغم من الاهتمام المتزايد لهذه الظاهرة، فإن هناك شحاً في الأبحاث والدراسات بالدول العربية، وعلى الرغم من أن الهجرة قديمة قدم وجود الإنسان، فإن نظرياتها تُعد جديدة تماماً، فقد فُسرت الهجرة باعتبارات عديدة ونماذج متعددة لمحاولة فهم الظاهرة.

 مفهوم «الهجرة»

لا يوجد تعريف متفق عليه عالمياً لمصطلح «الهجرة»، حيث تعرّف الأمم المتحدة المهاجر الدولي بأنه أي شخص غيّر بلد إقامته (دولته) المعتاد، وتُميز الأمم المتحدة بين «المهاجر لفترة قصيرة»؛ وهو شخص ينتقل إلى بلد خلاف بلد إقامته المعتاد لفترة لا تقل عن ثلاثة أشهر، لكنها لا تزيد على سنة واحدة، و«المهاجر لفترة طويلة»؛ وهو شخص ينتقل إلى بلد غير بلد إقامته المعتاد لفترة لا تقل عن سنة واحدة.

ويرى بعض الباحثين أنه من خلال استعراض الأدبيات المتعلقة بالهجرة، لا بد من التمييز بين مصطلحي «الاغتراب» و«الهجرة»؛ حيث يشير مصطلح الاغتراب إلى تغيير الشخص بلد إقامته لمدة محددة مهما طالت، ولكن بنية تحسين أوضاعه الاقتصادية أو الاجتماعية أو التعليمية والعودة لبلده الأصلي، بينما يشير مصطلح «الهجرة» إلى تغيير بلد الإقامة بشكل دائم والحصول على إقامة دائمة في بلد المقصد. 27-8-01.jpg

وبغض النظر عن دوافع وسياقات الهجرة الدولية، فإنه يمكن لها أن تولّد منافع كبيرة جداً للمهاجرين ولأسرهم ولبلدانهم الأصلية ولبلدان المقصد على حد سواء، فالأجور التي يتقاضاها المهاجرون في الخارج قد تبلغ أضعاف ما قد يكسبونه في بلدانهم الأصلية، ومن الآثار المفيدة للهجرة بالنسبة للمهاجرين وأسرهم؛ تحسن فرص التعليم والصحة؛ فعلى سبيل المثال، وفقاً لتقرير صدر مؤخراً عن البنك الدولي، فإن المهاجرين من البلدان النامية يشهدون زيادة في متوسط الدخل بمقدار 15 ضعفاً، ومضاعفة معدلات الالتحاق بالمدارس، وانخفاض معدل الوفيات بشكل ملحوظ عند هجرتهم إلى بلدان متقدمة، ويمكن للهجرة أن تقلل من البطالة في بلدان المنشأ، ومن نقص العمالة في بلدان المقصد، وتساهم في الحد من الفقر؛ حيث توفر تحويلات المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية تدفقات كبيرة من رؤوس الأموال ومصدر دخل مستقر نسبياً.

كما يمكن أن تؤدي الهجرة أيضاً إلى نقل المهارات والمعرفة والتكنولوجيا، وهي آثار يصعب قياسها، لكن يمكن أن يكون لها صدى إيجابي كبير على الإنتاجية والنمو الاقتصادي.

وبصفة عامة، تزيد الهجرة الدولية من الناتج المحلي الإجمالي للبلد المضيف، كما يمكن أن تساعد هجرة العمال الشباب في تخفيف الضغوط على نظم المعاشات التقاعدية في البلدان مرتفعة الدخل، التي تتزايد فيها شيخوخة السكان بسرعة.

لكن لا تجري جميع حالات الهجرة في ظروف إيجابية، حيث شهدت السنوات الأخيرة زيادة في حالات الهجرة والنزوح بسبب النزاعات، والاضطهاد، وهي كلها عوامل تشكل نقصاً في أمن الإنسان والفرص المتاحة له، وفي الوقت نفسه؛ تمثل أيضاً ظاهرة هجرة الشباب العربي هجرة للمهارات والكفاءات التي تمثل أحد أهم مقومات التنمية في المجتمع العربي.

الهجرة بالوطن العربي

لا تقدم بيانات منظمات الهجرة الدولية فهماً لظاهرة الهجرة من البلدان العربية وإليها، من حيث الاتجاهات والدوافع، حيث إنها بيانات مشتتة ومجتزأة، ومتعددة المصادر، وفي أوقات مختلفة، ولغايات مختلفة؛ حيث تفيد بعض التقديرات بأن هجرة اليد العاملة إلى بلدان مجلس التعاون الخليجي تحتل المرتبة الثالثة من حيث أعداد المهاجرين في العالم المعاصر مباشرة بعد هجرة اليد العاملة إلى أمريكا الشمالية وأوروبا، ويشكل المهاجرون في بلدان مجلس التعاون الخليجي نحو %10 من مجموع المهاجرين في مختلف أنحاء العالم بسبب دوافع اقتصادية بحتة، وتحل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في المرتبتين الرابعة والخامسة بين بلدان العالم من حيث عدد المهاجرين الوافدين.

وقد تناقصت، مؤخراً، نسبة المهاجرين العرب إلى دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تعد كل من الهند ثم بنجلاديش ثم باكستان ثم مصر دول منشأ للمهاجرين الدوليين إلى دول الخليج، معظمهم من الذكور العمال من الفئة العمرية ما بين 20 - 35 عاماً.

أما عدد المهاجرين من البلدان العربية، فقد قدر في عام 2013م بنحو 22 مليوناً، وكانت نسبة الذكور نحو %57، ونسبة الإناث %43، وهي أقل من النسبة العالمية فيما يخص الإناث، هذا وتختلف وجهة الهجرة حسب مجموعات البلدان في المنطقة العربية.

ويكون نمط الهجرة بالنسبة للمهاجرين من بلدان مجلس التعاون الخليجي عادة إلى المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية؛ والمهاجرون من بلدان المغرب العربي يتجه معظمهم إلى أوروبا، لا سيما فرنسا، والمهاجرون من بلدان المشرق العربي يتجه معظمهم إلى بلدان عربية أخرى، وكذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتعتبر كل من فلسطين ثم سورية ثم مصر ثم المغرب ثم العراق ثم الصومال دول المنشأ للمهاجرين العرب، ويرجح أن يكون اندلاع الأزمة في كل من سورية واليمن قد ساهم في هذا النمط؛ إذ انتقل معظم اللاجئين إلى البلدان المجاورة.

في عام 2016م، كانت تركيا، للسنة الثالثة على التوالي، أكبر بلد مضيف للمهاجرين في العالم، معظمهم سوريون، وجاء الأردن ولبنان ضمن أكبر 10 بلدان مضيفة؛ مما يعكس نسبة السوريين الكبيرة من بين اللاجئين في العالم.

هجرة الشباب العربي

نظراً لأهمية وتأثير مسألة الهجرة الدولية للشباب العربي، وما تثيره من أسئلة وقضايا تنموية واجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة؛ أبرزت النسبة المرتفعة للشباب ممن يرغب في الهجرة من بلده إشكاليات التنمية وتحدياتها، وعجز البرامج والسياسات التنموية المتبعة في الدول العربية عن استيعاب الشباب وإدماجهم في عملية التنمية في بلدانهم الأصلية، وما يرافقه من تهميش اجتماعي وسياسي وهدر للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمواطنين العرب عموماً وللشباب خصوصاً.

وتختلف الأسباب والدوافع الكامنة والمحركة لعملية الهجرة في الوطن العربي وخصوصاً الشباب منهم، حيث يشير تحليل الأسباب حسب استطلاعات الرأي إلى أن السبب الأهم لرغبة المواطنين في الهجرة هو تحسين أوضاعهم الاقتصادية، وظهر ذلك بشكل واضح في كل من الأردن والسودان ومصر ولبنان، بنسبة وصلت %74 من مجموع الذين يرغبون في الهجرة، وكان عدم الاستقرار الأمني (في العراق ومصر مثلاً) هو الدافع الثاني، بنسبة وصلت %10، بينما أشار %9 من المستجيبين إلى أن رغبتهم في الهجرة تعود لأسباب سياسية، وبنسبة %4 للحصول على تعليم أفضل (مثل الكويت والمغرب وموريتانيا)، بالإضافة إلى عوامل أخرى متنوعة، مثل: الالتحاق بأقرباء، وأسباب دينية بنسبة بلغت %3.

ويفسر د. هاشم نعمة فياض، في دراسته عن الهجرة الطلابية من الدول العربية، ظاهرة الرغبة في الهجرة لأسباب تعليمية إلى نظريات الاقتصاد السياسي، حيث يُنظر إلى أن القوى الاستعمارية السابقة استخدمت هذه الارتباطات للحفاظ على هيمنتها وعلى تبعية جديدة للمستعمرات السابقة؛ إذ يأتي كثير من الطلاب الذين يختارون الدراسة في فرنسا مثلاً من البلدان الفرنكوفونية، التي كانت مستعمرات فرنسية سابقاً.

التداعيات الأمنية والسياسية

تتنوع التداعيات المترتبة على هجرة الأفراد سواء على بلد المنشأ أو بلد المقصد، ولعل من أهمها المتعلقة بالهجرة غير الشرعية، فمع تزايد أعداد المهاجرين؛ تزداد المخاوف على أمن الأفراد والجماعات في البلد المضيف، نظراً للارتباطات المحتملة للهجرة بالعديد من ظواهر الإجرام العالمي (المخدرات، الإرهاب، التطرف، تجارة البشر..)، وارتباطها بولادة منظومات اجتماعية وسياسية جديدة، وهذا ما يغري البعض إلى اعتبار الهجرة غير النظامية إحدى النتائج المهمة التي حصدها المجتمع الدولي من الصراعات الإقليمية والدولية.

أما على الصعيد السياسي، فقد أصبحت الهجرة موضوعاً مؤثراً في مسار انتخابات كثير من الدول، وفي السياسة الخارجية لتلك الدول أحياناً، فوجود المهاجرين المسلمين والعرب مثلاً بأمريكا في تجمعات ذات طابع سياسي دفعت لأن تكون قضايا المسلمين، والأوضاع في العالمين العربي والإسلامي، حاضرة بقوة في المناظرات والحوارات التي صاحبت انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة مثلاً.

ويرى مدير مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير)(*)، نهاد عوض، أنه وبحسب دراسة قامت بها المؤسسة، فإن نحو %86 من الناخبين المسلمين المسجلين أكدوا عزمهم على المشاركة في التصويت في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة، وتعتبر نسبة أعلى من السنوات السابقة، كما أنها أعلى من المعدل الأمريكي العام للتصويت، لكن في الوقت نفسه، تواجه هذه المنظمات العربية والإسلامية تحديات الانقسام، إذ إن هذه المنظمات مرتبطة بدول عربية ومصالح مختلفة، وتتعارض مصالحها وفقاً لارتباطاتها السياسية؛ الأمر الذي يحدّ كثيراً من تأثير هذه المنظمات.

ويمكن أن يكون للعرب دور مؤثر في الحياة السياسية الأمريكية، إذا تم إنشاء مراكز ثقافية عربية تقدم صورة مشرقة للحضارة العربية، وصورة معتدلة ومستنيرة للإسلام، ومثل هذه المراكز الثقافية يمكن أن يكون لها دور اجتماعي وثقافي وسياسي مؤثر في المجتمع الأمريكي، في حال عملت على مدار العام ولم تنشط فقط فترة الانتخابات.

في السياق نفسه، لم تستطع هذه التجمعات العربية والإسلامية أن تشكل «لوبي» ضاغطاً مثل اللوبي اليهودي، ففي فرنسا –مثلاً- رغم أن الجالية المسلمة تشكل حوالي %5 من عدد السكان، في حين أن اليهود يزيدون قليلاً على %1 من سكان فرنسا، فإنهم (اليهود) يمتلكون «لوبي» قوياً ومؤثراً على الساحة الإعلامية والاقتصادية والسياسية والطلابية والدينية الفرنسية.

التداعيات الاجتماعية والثقافية

أما على صعيد التداعيات الاجتماعية والثقافية، فقد أشار تقرير أصدرته «وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية»، في أبريل 2018م، إلى أن المهاجرين في جميع أنحاء الاتحاد عادة ما يواجهون مشكلة في إدماجهم، ويتعرضون للمضايقات والتمييز في الحصول على التعليم والعمل والرعاية الصحية في الدول المضيفة لهم.

في كتابها بعنوان «الهجرة إشكاليات وتحديات»، ترى الكاتبة «فيوليت داغر» أن الاغتراب الثقافي والاجتماعي الذي يعيشه المهاجر الدولي يبدأ من مغادرة بلده الأصلي بما فيه من أهل وأصدقاء ولغة وتقاليد ورموز وأفراح وأتراح، مروراً بدخول البلد المستقبِل وبداية اكتشاف لغته وعاداته وتقاليده ورموزه، ثم انتهاء بمرحلة العودة إما إلى غربة جديدة في الوطن الأصل، أو إلى غربة في الذات بالمهجر، ورصدت «داغر» أهم الأسئلة التي تبرز معاناة المهاجر وانعكاساتها السلبية عليه، منها أسئلة الهوية والاندماج واللغة الأم والأسرة والصداقة والمرأة والأبوة.. وغيرها.

فانتقال أعداد كبيرة من المهاجرين لهم خصوصياتهم الثقافية إلى مجتمعات تختلف بل تتناقض أحياناً في خصوصياتها العقدية والهوياتية مع هوياتهم، يجعل قضية الاندماج الاجتماعي والاعتراف بهم مشكلات حقيقية يواجهها المهاجرون والمجتمعات المستضيفة لهم على حد سواء، ويبقى سؤال الهوية سؤالاً مشروعاً للمهاجر والمضيف، ليختار بين التخلي عن أصوله الثقافية والتنصل منها، وفكرة التعايش مع الآخر المختلف في عملية مسايرة ثقافية وأخلاقية لا تخفي العديد من السلبيات خلفها.

--------------------------

المصادر

1 - تقرير الهجرة في العالم لعام 2018م، وكالة الأمم المتحدة للهجرة.

2 - المؤشر العربي 2017/2018م، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

3 - مفاهيم نظرية في الهجرة السكانية: دراسة تحليلية مقارنة (2018م)، هاشم نعمة فياض.

4 - الهجرة الطلابية من الدول العربية، هاشم نعمة فياض.

5 - هجرة الشباب السوري: دراسة ميدانية في مدينة دمشق (2019م)، مركز حرمون للدراسات المعاصرة.

6 - الهجرة إشكاليات وتحديات، فيوليت داغر.

7 - مقالات منشورة في الصحف ومواقع الإنترنت.

(*) مؤسسة متخصصة للدفاع عن حقوق المسلمين الأمريكيين، وهي في الوقت ذاته جماعة ضغط لتحسين صورة الإسلام، وتشارك بالعمل الثقافي والسياسي والاجتماعي في أمريكا.

الرابط المختصر :

كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة