الهوية الإسلامية في عصر العولمة.. بين الصراع والتكامل
نشأت العولمة
كمفهوم اقتصادي يقصد به زيادة الترابط والتكامل بين اقتصادات وأسواق ومجتمعات
وثقافات مختلف دول العالم، على أن يتحقق ذلك من خلال تقليل الحواجز أمام التجارة
الدولية، وتحرير حركة رأس المال، وتطوير وسائل النقل، وتقدم تكنولوجيا المعلومات
والاتصالات، لكن الأمر اليوم اختلف كلياً عما أرادت العولمة أن تتوقف عنده في
بداية نشأتها، وإنما أصبحت منظومة متكاملة من القيم والرموز والنماط المعيشية
المختلطة بين الغرب والشرق، فقد تجاوزت الحدود الجغرافية لتشمل العوامل الثقافية
خاصة في ظل الانفتاح الهائل الناتج عن تعدد وسائل التواصل الاجتماعي بين الأقطار،
وداخل القُطر الواحد، ووجدت الهوية الثقافية الإسلامية نفسها محاصرة، بالرغم من
متانة مرجعيتها الربانية، بين مطرقة الانفتاح والتواصل مع الآخر والذوبان فيه دون
وسائل مقاومة ووعي كاف لتلك المقاومة، وبين سندان الاتهام بالانغلاق والتقوقع على
الذات.
وهنا يبرز سؤال مهم
للمعنيين من المفكرين وعلماء الأمة ومثقفيها: هل يمكن أن تتعامل الهوية الإسلامية
مع العولمة بشكلها وأغراضها المعلنة اليوم دون خوف من ضياعها؟ أم أنه يجب وضع
اعتبارات مسبقة قبل الشروع في التعامل معها، كأن تتعامل معها باعتبارها تهديداً
وصراعاً، أم فرصة للتكامل والانتشار والتوسع الفكري عند الآخر؟
مفهوم الهوية الإسلامية(1)
تتعدد تعريفات
الهوية الإسلامية، ومنها أنها: السّمات والخصائص والسلوكيات المميزة للأمّة،
الناتجة عن تفاعل المسلم مع العقيدة والشريعة، ومنها أنها السّمات والصفات
والسلوكيّات التي تميز المجتمع الإسلامي عن غيره من المجتمعات، وهي الإيمان بعقيدة
هذه الأمة، والاعتزاز بالانتماء إليها، واحترام قيمها الحضارية والثقافية، وإبراز
الشعائر الإسلامية، والاعتزاز والتمسك بها، والشعور بالتميز والاستقلالية الفردية
والجماعية، والقيام بحقّ الرسالة وواجب البلاغ، والشهادة على الناس.
ومن هذه
التعريفات يتضح أن الهوية الإسلامية ليست مجرد انتماء ديني فحسب، بل هي بنية مركبة
تقوم على عدة مقومات أساسية:
1- العقيدة
الإسلامية: وهي أهم ما يميز الهوية الإسلامية، وأهم منطلقاتها، فالهوية بغير عقيدة
صحيحة ومتينة هوية مهددة بالاندثار والذوبان في ثقافة الآخر، فهي تنضوي تحت لواء
العقيدة الثابتة، والإيمان القوي بالله تعالى، وهذا يشمل كل من ينتمي إلى أمة
الإسلام، أن يكون إيمانه بالعقيدة مطلقاً، ومؤمناً بأن الإسلام دين عمل وانقياد
إليه دون انتقاء، وأنه دين عالمي يملك القدرة على استيعاب الجميع؛ حيث يقول تعالى:
(إِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92).
2- اللغة
العربية: وهي لغة القرآن الكريم، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم، وبها نفهم أحكام
الدين: والمقوم الرئيس لفهم الإسلام وتعلّمه، قال الله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: 3).
3- التاريخ:
والتاريخ الإسلامي تاريخ متفرد، حيث يعلو على القوميات الضيقة، بل استوعبها بداخله
ليكون تاريخاً موسعاً وعميقاً وضخماً، شاركت فيه القوميات وصار الفرد فيه بأمة،
فلا بد من احترام وتقدير هذا التاريخ دون دمجه في أفكار وافدة كالقومية أو العولمة.
4- التراث: وهو
النتاج الحضاري للأمة الإسلامية بكل مكوناتها وأقطارها ولهجاتها ولغاتها في كل
المنتجات الدينية والفنية كالعمارة والفلسفة والآداب، وقد اتسم التراث الإسلامي
بالقوة والتميز والتأثر العميق بقوة العادات والتقاليد المستوحاة من مجموعة القيم
والأخلاق الإسلامية.
5- الحضارة: وقد
أسهمت الحضارة الإسلامية عبر تاريخ البشرية في بناء منظومة من المعارف والعلوم
والفنون كما لم تعرفها البشرية من قبل، يقول د. طه جابر العلواني: الهوية
الإسلامية ليست هوية منغلقة أو انعزالية، بل هي هوية مفتوحة على القيم الإنسانية،
لكنها تنطلق من ثوابت الوحي(2).
ملامح العولمة
يرى الباحث
الأمريكي صامويل هنتنغتون أن العولمة لم تلغ الهويات، بل أعادت إحياءها عبر ما
أنتجته بعد الانفتاح الإعلامي والتدفق الثقافي، حيث أصبحت الأمم أكثر وعياً
بهوايتها وأكثر حرصاً على الحفاظ عليها.
ومن أبرز مظاهر
العولمة المؤثرة:
1- ثورة
الانفتاح عبر التكنولوجيا الحديثة وتطور وسائل الإعلام.
2- الهيمنة
الثقافية الغربية من خلال التفوق السنيمائي والموسيقى والموضة.
3- ظاهرة
التداخل الاقتصادي والسياسي؛ ما وضع بعض التبعية للقرار المحلي.
4- تحول البلاد
الغربية لسوق استهلاكية؛ ما فرض نمطاً محدداً على نوعية الحياة، وهو التلقي دون
تمييز.
الهوية الإسلامية في مواجهة تحديات العولمة
تواجه الهوية
الإسلامية اليوم عدة طروحات مضادة، حيث بدأت المواجهة مع الهويات الغربية مثل
الماركسية والليبرالية، وحيث بدأت عمليات التغريب حتى وصلت لنقطة الخجل من الحديث
عن الهوية العربية والإسلامية مجردة، فاعتبر أن الحديث من منطلقها وحده نوعاً من
الرجعية الفكرية، وتلك هي أول خطوات الذوبان في هوية الآخر، وبما أن الهوية هي ذات
أي أمة وبصمتها الحقيقية، فإن ترك الذات للذوبان في الآخر نوع من التخلي عن القضية
الوجودية لصالح الآخرين، ويتحول الكائن الضعيف فيها لمجرد مقلد ومستهلك للمنتج
الثقافي والحضاري للآخرين، ومن أهم ما يواجه الهوية الإسلامية:
- التهديد
الثقافي: فالعولمة تسعى لفرض قيم الفردانية والاستهلاك، بينما الهوية الإسلامية
تقوم على قيم الجماعة والتكافل، ويشير المفكر الفرنسي جاك بيرك إلى أن الإسلام
اليوم في مواجهة ضغط قوي لتهميش دوره الروحي في مقابل النزعة المادية(3).
- التشويه
الإعلامي: تقارير منظمة العفو الدولية (2023م) تؤكد أن الصورة النمطية للمسلمين في
الإعلام الغربي ما زالت مرتبطة بالعنف والإرهاب؛ ما يخلق عزلة اجتماعية للمسلمين
في الغرب.
- تراجع اللغة
العربية: يشير تقرير «اليونسكو 2021» إلى أن 70% من المحتوى الرقمي عالميا ينتج
بالإنجليزية، مقابل أقل من 3% بالعربية.
- النزاعات
الداخلية: الحروب الأهلية والانقسامات المذهبية والسياسية في بلاد عربية تاريخية
ومحورية، مثل سورية واليمن والعراق، أضعفت وحدة الخطاب الإسلامي، وجعلت الأمة أكثر
عرضة للاختراق الخارجي.
فرص التكامل بين الهوية الإسلامية والعولمة
وما زالت هناك
فرص لإحداث نوع من التكامل بين الهويات الموجودة على الساحة اليوم، بحيث تحتفظ كل
هوية بميزاتها الخاصة وسماتها العامة دون ذوبان أحدها في الآخر لتشبع الحاجات
الإنسانية، وذلك بعدة شروط:
1- تعزيز الوعي
الحضاري(4): يمكن للعولمة أن تساهم في إبراز إنجازات الحضارة الإسلامية
في مختلف المجالات؛ ما يعزز ارتباط المسلمين بهويتهم الإسلامية.
2- الحوار بين
الثقافات(5): يمكن للعولمة أن توفر فرصاً للحوار والتفاعل بين الثقافات
المختلفة؛ ما يعزز التفاهم والتعاون.
3- الاستفادة من
التقدم التكنولوجي(6): يمكن للمسلمين الاستفادة من التقدم التكنولوجي
في مجالات مثل التعليم والاتصالات لتعزيز انتشار قيم الإسلام ومفاهيمه.
4- التكامل
الإقليمي: يمكن للدول الإسلامية تطوير سياسات التكامل الإقليمي فيما بينها لمواجهة
تحديات العولمة بشكل جماعي شرط الانطلاق من مفاهيم الإسلام بروحه وأخلاقه وهويته
الواضحة؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وهذه العالمية تجد اليوم فرصة للانتشار بفضل الثورة
الرقمية.
5- تجديد الخطاب
الإسلامي: التجارب الناجحة في ماليزيا وتركيا خلال العقود الأخيرة تبين إمكانية
صياغة نموذج يجمع بين الحداثة والمرجعية الإسلامية، وهو ما يمكن استثماره في عالم
متعدد الثقافات.
نحو رؤية متوازنة
لم يعد هناك
خيار أمام المسلمين سوى إحداث نوع من التوازن والوسطية بين حماية الذات بكل ما
تمثله من تراث وفهم للحاضر والمستقبل في ضوء الثوابت الدينية المتفق عليها بإجماع
علماء المسلمين، والانفتاح على الآخر مع القيام بعملية انتقاء تتخير ما يصلح
ويتوافق مع جملة القيم التاريخية للأمة، وهذا التوازن يتطلب الآتي:
1- الاهتمام
بالتعليم كي تعود الأمة لسابق عهدها من الريادة، وإن كان الأمر صعباً في الوقت
الحالي نظراً للتخلف الكبير عن ركب التعليم العالمي والوقوف عند دور المتلقي، فليس
أقل من محاولة النهوض بتغيير المناهج الدراسية التي تتلاءم وتطورات العصر،
والاهتمام بالمعلم والوسائل التعليمية لنكون طرفاً في إنتاج المعرفة لا مجرد متلقي
2- إن لم يكن
لديك ما تعطيه في مجال المعرفة خاصة في العلوم البحتة، فعلى الأقل لديك ما ينقص
الآخر في الحضارة الغربية، لديك التوازن الإنساني والروحي الذي ضمنه الاتباع
الصحيح لشريعة الإسلام، لديك مخزون ثقافي تحتاجه البشرية وقد فشلت في صناعة مثله،
فصنعت الراحة وفشلت في الحصول على السعادة، تلك السعادة التي لا تأتي إلا بالإيمان
الراسخ بالله عز وجل والاتكال عليه والاطمئنان لوجوده.
لقد آن الأوان
للهوية الإسلامية أن تأخذ مكانها المستقل، ليست كبديل عن الهويات الأخرى، وليست
كموقع صراع مع الآخرين، وليست للانغلاق أمامهم، وإنما مشروع حضاري مفتوح على
التكامل التحدي الحقيقي هو قدرة المسلمين على تحويل العولمة إلى فرصة لإبراز
عالميتهم وتقديم نموذج إنساني بديل قائم على الرحمة والعدل والتوازن، بما يضع
المسلمين أمام مسؤوليتهم التاريخية كجزء فاعل في صياغة المستقبل الإنساني.
__________________
(1) رمضان
الغنام: «ماهية الهوية وكيفية الحفاظ عليها»، طريق الإسلام (بتصرف).
(2) أزمة الهوية،
2001م: طه جابر علواني.
(3) (Burke, L’Islam, 1991).
(4) مخاطر
العولمة ومخاطرها على الهوية الإسلامية: موقع سندك.
(5) العولمة
والهوية الثقافية صراع أم تكامل: منصة جزيل.
(6) الهوية
الإسلامية في عصر العولمة: دراسة تحليلية في ضوء مفاهيم القرآن.