الولع بالتغريب و«الأمركة» سيقود التعليم العربي إلى كارثة

جمال سعد

20 أغسطس 2023

9406

قيمة أي أمة بقدر اهتمامها بتعليم أبنائها من خلال مناهج تهدف لتحقيق الأهداف الكبرى لنهضتها، لكن عندما تفتقد الرؤية الصحيحة تكون عرضة لتيارات التغريب والجمود والتيه والطائفية والصراعات السياسية.. هذا ما يجسده الواقع الأليم لمناهجنا التعليمية في العديد من بلادنا العربية.

من هنا تأتي أهمية الحوار مع الخبير التربوي المصري د. محمد حسن، أستاذ المناهج بجامعة حلوان.

ما أهم الأهداف التي يجب أن تركز مناهجنا على تحقيقها لإعداد طلاب ذوي كفاءة عالية يصلحون لقيادة بلادنا العربية والنهوض بها مستقبلاً؟

- لا شك أن التطوير المستمر بوعي في المناهج الدراسية أمر مصيري بعيداً عن العشوائية والمزاجية؛ لأنه لم تعد هناك مناهج ثابتة لعقود طويلة كما كان الأمر في السابق، ولهذا نحن بحاجة لمناهج تركز على المهارات الحياتية المنطلقة من ظروفنا البيئية وقيمنا الأخلاقية العربية، مع مراعاة خصوصية كل دولة، ومواكبة العصر، ولكنَّ هناك أهدافاً عامة لهذه المناهج، أهمها:

1- إعداد طلاب على دراية بدينهم وحضارتهم وتاريخهم وتراثهم والاعتزاز بهويتهم

2- تكوين شخصية إيجابية عملية قيادية مبدعة تؤمن بالتفكير العلمي.

3- إعداد شخصيات لديها قبول للآخر المختلف معها في دينه وتاريخه وحضارته ولغته، مع القدرة على الحوار والتفاعل معه.

4- إعداد شخصيات غير قابلة للذوبان في حضارة وثقافة وقيم الآخرين، وأن تكون عصية على التبعية، وقادرة على المحافظة على استقلاليتها.

5- إعداد الطلاب لوظائف المستقبل التي تعتمد على دمج التكنولوجيا في الدراسة وإجادة اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية بدلا من تهميشها، والاهتمام باللغات الأجنبية بحجة سوق العمل.

كفاءة المدرس تتراجع لأنه أصبح أقرب للتاجر!

6- زيادة البرامج التربوية لاكتشاف الموهوبين بعيداً عن الواسطة والمحسوبية.

7- رعاية الموهوب مهما كان مستواه الاجتماعي والاقتصادي، وهذا لن يتم بشكل عشوائي، وإنما من خلال إستراتيجية لتطوير المناهج التعليمية، وكل مكونات العملية التعليمية من مناهج ومدرسين وطلاب ومبانٍ ومعامل وأجهزة كمبيوتر ودمج التحول الرقمي في التعليم؛ مما يسهم في إعداد طلاب أكثر إقبالاً على التعلم والابتكار، في إطار التحول الرقمي في تكنولوجيا التعليم.

8- تجهيز المدارس بالبنية التكنولوجية المتطورة سواء الألياف الضوئية، والإنترنت فائق السرعة، والشاشات الذكية، ولا يمكن فصل تطوير المناهج عن الاهتمام بالأنشطة الرياضية والفنية.

9- اتباع طرق التدريس الحديثة بنظام مجموعات العمل.

إذا كانت هذه هي الأهداف الكبرى للمناهج التعليمية، فهل المناهج الحالية حققتها؟

- يؤسفني القول: إن كثيراً من هذه الأهداف لم يتم تحقيقه عملياً على أرض الواقع، فما زالت مناهج بعض الدول سطحية قائمة على الحفظ والتلقين بلا فهم، وبعضها الآخر ما زال متأثراً بالأفكار التي زرعها الاستعمار الغربي الإنجليزي والفرنسي والإيطالي، ثم «الأمركة» حالياً، بعض مناهجنا ما زالت تعاني من التبعية بشكل مباشر أو غير مباشر، ويتولى العملية التعليمية فيها ذيول لهذا الاستعمار الذي هو في حقيقته «استخراب»، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وقعت مناهج بعض دولنا فريسة للتعليم الأجنبي الذي جاء لأوطاننا من خلال مدارس اللغات والمدارس والجامعات الدولية، التي تخرج أجيالاً انتماؤها الفكري للدول الأجنبية التي يتم تدريس مناهجها بلغاتها، وكما يقال: «اللغة وعاء الفكر»؛ وبالتالي فإن ما يدرسه الطالب بلغة أجنبية ويتحدث بها يكون لديه تبعية لها، وكما قال ابن خلدون في «مقدمته»: «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده».

لا بد من إنشاء هيئات مستقلة لضمان جودة التعليم وتطوير المناهج لمعالجة أي جوانب للقصور، ومواكبة التطور العالمي في التعليم؛ لأن من لا يتطور يتراجع ويموت، وإذا قلنا: إن اللورد كرومر الإنجليزي قام بتعيين القسيس دانلوب مستشاراً لوزارة المعارف المصرية؛ لغرس سياسة تغريب التعليم وتحقير التعليم العربي وتهميش مادة الدين الإسلامي، وتشجيع التعليم بالإنجليزية، وتنشيط مدارس الإرساليات التبشيرية، ألا يتم تنفيذ أفكار دانلوب بأشكال مختلفة في مناهج تعليمنا العربي حتى نعيش في حالة من الافتخار بالتغريب أو العيش في حالة التيه الذي لا يأتي بخير؟

إلى أي مدى ترى المناهج التعليمية حققت الأهداف التي وضعت من أجلها، وخاصة في ظل وجود مناهج موازية للمناهج العربية في العديد من الدول التي تشجع التعليم الأجنبي؟

- يؤسفني القول: إن الولع بالتغريب سيقودنا إلى كارثة وانفصام في مجتمعاتنا العربية، ستولد أجيالاً تحتقر هويتها وتتنصل من دينها، وهذه ليست مبالغة في ظل انتشار المدارس الدولية التي لها مناهجها الخاصة، وتكتمل المنظومة بالجامعات الدولية التي انتقلت إلى أراضينا، وأنا أتساءل: إلى متى تفتخر أسرنا العربية بأن أبناءها يتعلمون تعليماً غير عربي منذ نعومة أظفارهم، حتى إنهم يجيدون اللغات الأجنبية بطلاقة، ولا يستطيعون الكلام لدقيقتين بالفصحى أو حتى العامية العربية؟!

المناهج سطحية والمدارس الأجنبية خطر كبير

هناك عيب خطير تعاني منه غالبية المنظومات التعليمية العربية، وهو اعتمادها على الحفظ والتلقين أكثر من الفهم والإبداع، وهذا قتل ملكة الابتكار عند كثير من الطلاب الموهوبين الذين يفتقدون في غالبية دولنا العربية إلى آلية تحتضنهم وترعاهم؛ لتخرج منهم أحمد زويل، أو فاروق الباز، وغيرهما الكثير من الطيور العربية المهاجرة إلى الدول المتقدمة ليشار إليها بالبنان، وتصل إلى أعلى المناصب العلمية.

ما رؤيتكم لمدى صعوبة أو سهولة المناهج العربية؟

- العبرة ليست بصعوبة المناهج أو سهولتها، وإنما بقدرة المناهج على إعداد طلاب يجمعون بين الأصالة والمعاصرة، وبقدرة المدرسين على هضمها ونقلها بسهولة وحب إلى طلابهم ليتفاعلوا معها بإيجابية واستيعابها، وعرف التربويون التعليم الحقيقي بأنه ما يبقى مع الطلاب بعد تخرجهم، وألا ينسوا المعلومات والمهارات والقيم الأخلاقية التي سبق لهم أن تعلموها بالمدرسة.

تشير الأبحاث التربوية إلى أن أصعب المناهج الدراسية العربية يدرسها طلاب فلسطين والأردن والعراق وسورية، أما بقية الدول العربية فمناهجها أقل صعوبة، وهذا يختلف تماماً عن المقاييس الدولية لجودة التعليم، حيث جاءت دولة الإمارات العربية المتحدة ثم لبنان ثم الأردن ثم تونس ثم السعودية ثم قطر ثم سلطنة عُمان ثم المغرب، جاءت مصر في المركز 13 عربياً، ومركز متأخر دولياً، وهذا يتطلب وقفة، وأعتقد أنه يتم إصلاح هذا الوضع الذي لا يليق بمصر حالياً.

كيف يمكن النهوض بمناهج تعليمنا والاستفادة من تجارب التعليم الأخرى سواء على المستوى العربي أو العالمي؟

- لا شك أن التعاون العربي ونقل الخبرات والتجارب الناجحة في التعليم أحد أسباب نهضته وقدرته على تحقيق أهدافه المرجوة سواء للوطن أو للشخص المتعلم، كذلك تجارب ناجحة لدول شرقية مثل كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة والصين والهند، أما مناهج التعليم الغربية لعل أبرزها: التجربة الفنلندية والهولندية والألمانية والأمريكية والكندية، ومن يتأمل سيجد أن بعض هذه الدول استطاعت قهر دمار الحروب، مثل اليابان وألمانيا، ودول أخرى قهرت الأمية ليحل محلها نور العلم المتطور فتقدمت اقتصادياً، أهمها الصين وسنغافورة والهند وتايلاند وغيرها.

يقال: إذا زاد عدد المدارس وتطورت المناهج قلت السجون، فهل توافق على هذه المقولة، أم لكم عليها تحفظات؟

- لا شك أن المناهج الدراسية وخاصة في مرحلة التعليم الأساسي هي حجر الزاوية أو عمود الخيمة في إعداد جيل واع بدينه وهويته العربية والإسلامية، لأن هذه المناهج تتضمن خططاً للإعداد المعرفي والعقلي والوجداني من خلال تقسيم مضمونها على الصفوف الدراسية بما يتلاءم مع كل مرحلة عمرية بشكل تصاعدي متكامل، تبدأ بمرحلة الطفولة المبكرة التي فيها تشكيل شخصية الطفل بحيث يتم إعداده للمرحلة الابتدائية التي تعد أهم مرحلة تعليمية، ولهذا فإن الدول المتقدمة تهتم بمواصفات مدرسي رياض الأطفال والابتدائي، حتى إن بعضها تشترط أن يكون حاصلاً على أعلى المؤهلات في العلوم التربوية، ويتم تعيينهم بأعلى مرتبات محافظة على هيبة المدرس، ففي اليابان يتم تربية النشء على مقولة شهيرة «ابتعد عن المعلم سبع أقدام حتى لا تدوس على ظله بالخطأ»، فالمدرس من الفئة الأولى اجتماعياً ومادياً لدوره في تربية الأجيال.

من المهم الأخذ بثلاثية الإصلاح لإنقاذ التعليم

ما أهمية غرس مثل هذه القيم اليابانية المتماشية مع تعاليم الإسلام في تحقيق أهداف المناهج الدراسية؟

- لا شك أن مدرسين بهذه المواصفات العلمية وعائد مادي محترم يجعلهم أكثر قدرة على الإبداع والراحة النفسية ليس في التدريس وتوصيل المعلومات فقط، وإنما يكون لهم دور حيوي في تطوير المناهج وإبداء الرأي في مضمونها ليكون على أفضل حالة، لأنهم يشعرون أنهم أصحاب رسالة، وليس مجرد موظفين هدفهم الدروس الخصوصية وجمع الأموال، وربط الجدية في أداء عملهم بمن يدفع لهم، ولهذا رأينا كفاءة المدرس العربي تتراجع لأنه أصبح أقرب للتاجر، وقد نلتمس له بعض العذر لضعف مرتباتهم ومستواهم العلمي حيث لا توجد دورات كافية لتأهيلهم، ولهذا لا بد من معالجة جوانب القصور لكل مكونات المنظومة التعليمية إذا أردنا نهضة للأمة؟!

يقال: إن المنهج الجيد، والمدرس صاحب الرسالة، والمنظومة الواعية المتطورة، وجوه متعددة لعملة واحدة، فكيف ترى تحقق ذلك في مدارسنا العربية؟

- تواجد هذه الثلاثية وقوتها أو ضعفها يختلف من دولة إلى أخرى، حسب الحالة الاقتصادية والاجتماعية والمكون الثقافي لأفراده، فمثلاً وجود هذه الثلاثية وتناغمها يختلف في دول الخليج العربي عن المغرب العربي، وكذلك يختلف بين دول القارة الواحدة، فمثلاً في القارة الأفريقية هناك اختلاف بين المناهج الدراسية في مصر والسودان والصومال وجيبوتي وجزر القمر وليبيا.

وهناك خصوصية لدول المغرب العربي تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا، وكذلك بين الدول العربية الآسيوية سنجد اختلافاً بين دول منظمة التعاون الخليجي رغم تجاورها الجغرافي، فمثلاً مناهج السعودية المستقرة الموحدة تختلف تماماً عن اليمن الذي يعاني التمزق الجغرافي منذ عقود، وزادت مأساته حالياً في ظل الصراع السياسي بين أبناء اليمن والتدخلات الخارجية التي ألقت بظلالها على كل مظاهر الحياة، ومنها العملية التعليمية، فالحوثيون لهم مناهج خاصة تحمل أفكارهم ومعتقداتهم وأهدافهم التي تختلف عن بقية الشعب اليمني من أهل السُّنة، وكذلك أبناء الجنوب اليمني غير الشمال اليمني، وضاعت تسمية «اليمن السعيد»، فهذا نموذج للتمزق، نفس الوضع بشكل مختلف موجود في العراق ولبنان والصومال وسورية وليبيا وغيرها من الدول التي تشهد صراعات داخلية وتدخلات خارجية؛ مما يجعل المناهج الدراسية غير مستقرة أو متفقة على أهداف عليا، وإنما تلقي الطائفية والعرقية بظلالها بدرجات متفاوتة.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة