مصطلح «العَلمانية» بين النظرية والتطبيق.. أوروبا نموذجاً (3 - 3)

اليمين المتطرف يتمسح بالعَلمانية والمسيحية

د. أحمد عيسى

12 نوفمبر 2025

164

تُستخدم الآن حرية التعبير، التي من المفترض أن تكفلها الديمقراطية العَلمانية للجميع، كغطاء لخطاب الكراهية والتحريض ضد المسلمين، وفي المسيرة الضخمة الأخيرة في لندن لليمين المتطرف تحت شعار «وحّدِوا المملكة»؛ أي ضد المهاجرين غير البيض الإنجليز، كانوا يتمسحون زورًا بالمسيحية وهي منهم براء، فيحملون صلبانًا خشبية، وبعضهم يلبسون مسوح الكنيسة، ويرددون شعارات ضد الإسلام والمسلمين، ويهتفون: «المسيح هو الملك»، ويصلّون بفقرات من الإنجيل، وبعضهم يحمل أعلام دولة الاحتلال وأمريكا، وتحدث على المنصة صهاينة حاقدون على الإسلام من بريطانيا وأمريكا وفرنسا وهولندا ونيوزيلندا وأستراليا وكندا وإسبانيا والتشيك، كيف اجتمع هذا الخليط النشاز والثالوث المتنافر من العلمانية، والصهيونية اليهودية، واليمين المتطرف؟

على مدار تاريخها، فإن المجموعات اليمينية العنصرية المتطرفة في أوروبا تعتبر كراهية اليهود من أساس فكرها الأيديولوجي، الذي يضع الجنس الأبيض فوق الجميع، وهي تتبنى معاداة السامية المبنية على التخوف من هيمنة اليهود العالمية على الاقتصاد والإعلام والحكم، والآن تتظاهر وتتصنع أنها ليست ضد اليهود ولكنها ضد المسلمين، وتركب -زيفًا وبهتانًا- موجة مسيحية عدائية للإسلام لتخويف وتضليل قسم من الشعوب التي تعرضت لتزييف التاريخ وإبطال الحقائق في رحلة تشويه الإسلام منذ الحروب الصليبية، ثم تستخدم هذه المجموعات حرية التعبير «العَلمانية» المرحَب بها إذا كانت فقط ضد الإسلام.

البعد السياسي للفصل بين الدولة والدين

استخدام مصطلح «العَلمانية» أحيانًا يركز بشكل كبير على معناه السياسي للإشارة إلى الفصل النسبي بين الدولة والدين، وعدم التمييز بين الأديان والضمانات المقدمة فيما يتعلق بحقوق الإنسان للمواطنين، بغض النظر عن عقيدتهم، ويسعى الفيلسوف تايلور، لتوضيح معنى العَلمانية، بطريقة تؤكد الطبيعة الصعبة والمتنازع عليها لتعريفها، وهو يجادل بأن العَلمانية السياسية تتطلب السعي وراء 4 مصالح عامة:

1- ممارسة الحريات الدينية (بما في ذلك حرية عدم الإيمان).

2- عدم انحياز الدولة لصالح أي تسمية أو دين واحد.

3- شمولية الثقافة السياسية، فيشارك الجميع، بمن في ذلك الجماعات الدينية، في تحديد الهوية السياسية للمجتمع، وكيفية تحقيق توافق في الآراء بشأن توزيع الحقوق والامتيازات.

4- سعي الثقافة السياسية إلى تعزيز العلاقات المتناغمة والحفاظ عليها بين جميع المجموعات، بما في ذلك الجماعات الدينية(1).

تلكم تطلعات لم تحققها أوروبا كاملة أبدًا، وتلكم ما يطالب به المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، فقد أصدر بيانًا جاء فيه أن الالتزام بالنظام العَلماني يترتب عليه التزامات من الدولة، أهمها حماية حرية الاعتقاد والممارسة الدينية، ومسلمو أوروبا في هذا المجال يريدون أن تعاملهم الدولة كما تعامل بقية الأديان الأخرى، وبهذا تكون العَلمانية بمثابة إطار عام ينظم أسس العلاقات في المجتمع، ولا تكون علمانية منافسة أو مصادمة للأديان فيما هو من خصوصيتها(2).

العلاقات بين الكنيسة والدولة

أنتجت الدراسة المقارنة للعلاقات بين الكنيسة والدولة نصيبها من النماذج المختلفة(3).

فهناك 5 نماذج:

1- علاقة قوية (اليونان، صربيا).

2- علاقة ضعيفة (إنجلترا، إسكتلندا، النرويج، الدنمارك).

3- علاقة التعددية (فنلندا).

4- إضفاء الطابع المؤسسي العام على التعددية الدينية (هولندا، السويد، ألمانيا، النمسا، بلجيكا، إسبانيا).

5- الفصل الصارم (فرنسا).

ويلاحظ في هذا السياق أن العَلمانية الغربية ليست لونًا واحدًا، أو درجة واحدة، حينما نأتي لتطبيقها، فهناك عَلمانية صلبة (متشددة)، وأخرى رخوة (محايدة أو متسامحة نوعًا)، أما التعددية الدينية المطلقة فلا توجد أرض أوروبية فيها ذلك حتى الآن، ولا يبشر المستقبل بها.

فالعَلمانية الفرنسية مثلًا تتخذ موقفًا متشددًا ضد الإسلام، بخلاف العَلمانية الألمانية التي تتخذ نهجًا أكثر تصالحًا ولكن مع الدين المسيحي، وتُحصّل الدولة في ألمانيا ضرائب لصالح الكنائس (9% من الدخل) ممن يسجل نفسه كاثوليكياً أو بروتستانتياً أو يهودياً.

وتختلف الأحزاب والتيارات الدينية، والتيارات ذات المرجعية الدينية فيما بينها من حيث قبولها بالآخر ومدى استعدادها للانفتاح والمشاركة في عملية سياسية متعددة الأطراف، وكذلك درجة إيمانها بمبادئ التعددية والديمقراطية والعَلمانية!

عَلمانية التعصب للمسيحية

توجد 9 دول في أوروبا لها دين رسمي مسيحي:

  • الكاثوليكية في مالطا وموناكو وليشتنشتاين.
  • اللوثرية (بروتستانت) في الدنمارك والنرويج وأيسلندا.
  • الأنجليكانية في بريطانيا.
  • الأرثوذكسية في اليونان وأرمينيا.

وهناك دول أوروبية تفضل المسيحية (بطريقة غير رسمية) مثل روسيا وبلغاريا وجورجيا ومولدوفا وبيلاروس وفنلندا وإيطاليا وبولندا ومقدونيا ورومانيا وإسبانيا.

وحسب هذه الدراسة، فإن الدول التي تتبنى دينًا معينًا تمنح معتنقي هذا الدين مزايا تفضيلية، وكذلك الدول التي لا تتبنى رسميًا ديانة معينة لكنها تفضل دينًا أو عقيدة معينة، فإنها تمنح أصحابها مزايا مالية أو قانونية معينة، ورغم أن الأخيرة لا تذكر الدين في قوانينها لكنها تتحدث عن التقاليد الدينية للدولة، وبالنسبة للفئة الأولى، فإنها قد لا تجعل الالتزام بدين معين أمراً إلزامياً، لكنها تفضل أصحاب الدين الرسمي على معتنقي الأديان الأخرى، وغالبية الدول التي تتبنى أو تفضل دينًا معينًا تقدم دعمًا ماليًا للأنشطة التعليمية لهذا الدين وبناء دور العبادة الخاصة به(4).

الهجرة والعَلمانية

في الخطاب السياسي والشعبي حول الهجرة والاندماج، يشار إلى أوروبا (اعتماداً على السياق) على أنها عَلمانية، أو مسيحية، وحتى لو كانت أقلية فقط من السكان في العديد من دول أوروبا الغربية تمارس دينها فعليًا، فإن الكثيرين يستمرون في التعرف على المسيحية باعتبارها تقليدًا ثقافيًا، دون المعتقدات والممارسات التي يرتبط بها المرء عادة بهوية دينية.

باستخدام مجموعة من المقابلات النوعية في بريطانيا وهولندا والدنمارك وأيرلندا، وُجد أن الهوية المسيحية مرتبطة برؤية الهجرة كتهديد للهوية الوطنية، في حين أن الذهاب إلى الكنيسة لا يرتبط بالمواقف المناهضة للهجرة(5).

يمكن تفسير ذلك بأن كلمة مسيحي تشير إلى التراث الثقافي القومي أو العرق الأبيض بدلاً من الإيمان والعقيدة، ومن ثم فإن أولئك الذين يعتبرون مسيحيين، رغم ضبابية الكلمة واتساعها، هم في المتوسط ​​أكثر عرضة لأن يكونوا قوميين أو كارهين للأجانب، ونظرًا لأن رواد الكنيسة أكثر تعاطفًا مع الدين بشكل عام، فإنهم يميلون إلى أن يكونوا أقل سلبية تجاه المسلمين والأقليات الدينية الأخرى.

وأرى أن الأمر متشابك، فأعداد الذين يرتادون الكنائس في أوروبا قلّ بدرجة كبيرة للغاية، وبالتالي يوجد خارج الكنيسة أشخاص متدينون يحترمون الأديان الأخرى، ومن ناحية أخرى فليس كل المسيحيين على درجة واحدة، ففيهم المتفاهم، والمحايد، والسلبي، واللامبالي، وغير المتدين، والمتعصب.

العَلمانية ليست مسألة محسومة

لقد كان يُعتقد خطأ منذ فترة طويلة أن العَلمانية مسألة محسومة في أوروبا، ولكن منذ أواخر الثمانينيات، أصبح الأمر غير مستقر، فقد عملت سلسلة من الأزمات الثقافية والسياسية، على سبيل المثال، قضية كتاب سلمان رشدي الآيات الشيطانية، وأزمة الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، على وضع النقاش الوطني حول الدور العام للدين مرة أخرى إلى مركز الصدارة.

وهي تهرول في بعدها عن الدين المسيحي اتخذت دول أوروبا طرائق مختلفة ونسبية؛ منها من بعد عن الدين بعدًا لا رجعة فيه، ومنها من ابتعد ومعه بقايا من الدين، ومنها من أبقى حبائل ظاهرية سطحية للقرب، ومنها من لا يزال يلتصق بمسيحية كارهة للغير، وهم كلهم جميعًا كذابون في ادعائهم أنهم عَلمانيون يحترمون كل الأديان!




_______________________

(1) Taylor, What is Secularism, in Secularism, Religion and Multicultural Citizenship, Levey and Modood (eds), Cambridge University Press, 2009.

(2) المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، بيان حول منهجية التعامل مع الشأن الإسلامي في أوروبا، 2 أغسطس 2021.

(3) O’Brien, Secularism. In The Muslim Question in Europe: Political Controversies and Public Philosophies, Philadelphia, Temple University Press, 2016, p144.

(4) Pew Research Center, Many countries favor specific religions, officially or unofficially, 3 October 2017.

(5) Ingrid Storm, Secular Christianity as National Identity: Religion, Nationality and Attitudes to Immigration in Western Europe, PhD, University of Manchester, 2011.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة