اليهود البداية والنهاية (14)
اليهود في عصر الرسول ﷺ
بعث الله رسوله
محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور،
فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله، فآمن به من آمن، وكفر به من كفر، فلما
اشتد إيذاء قريش له ولأصحابه، أمره ربُه بالهجرة إلى يثرب، فهاجر النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه إليها، وكان قد سبقهم بالهجرة إليها قبائل يهود.
سر الاستقرار.. الطمع
ولم يكن استقرار
اليهود بيثرب لأجل المصالح الاقتصادية والعسكرية فحسب، بل كان هناك بُعد عقدي
معتمد على ما كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة من أن نبياً أمياً يأتي في
آخر الزمان، يُختم به النبيون، يفتح الله به الممالك، وكانوا يقرؤون صفة دار
هجرته، حتى غلب على ظنهم أنها يثرب، فهاجروا إليها، فكانوا يطمعون أن يفتح الله
عليهم بهذا النبي الذي أُخبروا بصفته في كتبهم.
قال ابن كثير: وقد
كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين
إذا قاتلوهم، يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان، قد أظل زمانه، نتبعه، نقتلكم
معه قتل عاد وإرم(1).
سر الإنكار.. الحسد
كان اليهود
يتمنون هذا النبي ليستعيدوا به ملكهم، ويلموا به شتاتهم، ولكن ليس كل ما يتمناه
المرء يدركه، فقد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وقد أتت بما لا يشتهون.
قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ
اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ
اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة: 89)؛ يقول عبدالرحمن حبنكة: ولما لم يأت هذا النبي الموعود
من بني إسرائيل، بل جاء من العرب من أولاد إسماعيل، حسدوهم، والحسد المضلل القتال
من خصال اليهود المتوارثة فيما بينهم، فكفر به عامة اليهود، أما الذين آمنوا به
منهم فكانوا قلة، ولم يكن كفرهم به لأن قلوبهم لم تصدقه، فهم قد عرفوه بصفاته،
وإنما كفروا به بغياً وحسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق(2).
مظاهر حسد اليهود للنبي وأمته
ولما كان الحسد
صفة ملازمة لليهود، وخصلة من أسوأ خصالهم، فقد سجل القرآن الكريم كثيراً من مظاهر
عداء اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وأمته، التي كانت بدافع الحسد
الدفين، ومنها:
أولاً: إنكار نبوة محمد:
فقد أنكروا أن
يكون نبي آخر الزمان من غير جنسهم؛ قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ
اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ
اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ).
ثانياً: كتمان صفة النبي:
قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146)؛ قال ابن كثير: إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذَا الَّذِي
جِئْتَهُمْ بِهِ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ
الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ عَنِ الْمُرْسَلِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ
وَالْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ بَشَّروا بِوُجُودِ مُحَمَّدٍ صلى
الله عليه وسلم وَبِبَعْثِهِ وَصِفَتِهِ، وَبَلَدِهِ ومُهَاجَرِه، وَصِفَةِ
أُمَّتِهِ(3).
لكنهم كتموا ما
في كتبهم من صفته صلى الله عليه وسلم بغياً وحسداً.
ثالثاً: السعي في صد الناس عن الإسلام:
قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ
أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: 109)؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قال ابْنِ عباس:
كَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَأَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ مِنْ أَشَدِّ يهودَ
لِلْعَرَبِ حَسَداً، إذْ خَصهم اللَّهُ بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَا
جَاهدَين فِي ردِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ مَا اسْتَطَاعَا، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ فِيهِمَا: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُم).
رابعاً: كراهية الخير لأمة الإسلام:
قال تعالى: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ
مِّن رَّبِّكُمْ) (البقرة: 105)، وقال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن
فَضْلِهِ) (النساء: 54)، وإن من فضل الله على أمة العرب أن جعل خاتم الأنبياء
وسيدهم وإمامهم صلى الله عليه وسلم منهم، بل حسدوا أمة الإسلام على يوم الجمعة،
وعلى إفشاء السلام الذي ينشر المودة بين الناس، وعلى قول: «آمين»؛ لما فيها من
الفضل والبركة.
فعن عائشة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اليهودَ قومُ حَسَدٍ، وإنهم لا يحسدونَنا على
شيٍء كما يحسدونا على السلامِ، وعلى آمين» (صحيح سنن ابن ماجه، الألباني)، وفي
رِوايةٍ: «إنَّهم لا يَحسُدونا على شَيءٍ كما يَحسُدونا على يومِ الجُمُعةِ الَّتي
هَدانا اللهُ لها وضَلُّوا عنها، وعلى القِبْلةِ الَّتي هَدانا اللهُ لها وضَلُّوا
عنها، وعلى قولِنا خَلْفَ الإمامِ: آمينَ».
نماذج من حسد اليهود للنبي
والحسد مرض خطير
وانحراف لئيم، وخلق ذميم، يدل على تشوه في النفس، وتعقيد في الشخصية، إنهم يحسدون
محمداً على رسالته لأنه ليس يهودياً، ويحسدون المسلمين لأن الله أنعم عليهم
بالإسلام، ولذلك حاربوهم، وتعاونوا مع المشركين على حربهم(4).
وتحكي كتب السير
نماذج يهودية أشهرت سيوف العداء في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعقيدته
لا لشيء إلا بغضاً للحق واستنكافاً عن قبوله، وعلى رأس هؤلاء حُييُّ بن أخطب،
وأخوه أبو ياسر بن أخطب، إذ كانا من كبار أحبار بني النضير، وقد عرفا محمداً صلى
الله عليه وسلم وتحققا من صفاته حين قدم المدينة، إلا أن الحسد وحب الزعامة صدهما وغيرهما
عن السبيل وكانوا مستبصرين.
تقول أم
المؤمنين صفية بنت حُيي: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع
ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب
مغلسين، قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين كسلانين
ساقطين يمشيان الهوينى.
قالت: فهششت
إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليَّ واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت
عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه
وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت(5).
فراحا يثيران
الشبهات حول النبي صلى الله عليه وسلم ويؤلبان اليهود والمنافقين عليه، ثم تطور
العداء إلى العمل السياسي والعسكري حتى وصل ذروته يوم «الخندق»، فكانا مثالاً لمن
عرف الحق فأنكر، واجتهد في رد الناس عنه واستكبر، وفيهما أنزل الله قوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ
أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).
بين إبليس واليهود
كان إبليس
منخرطاً في سلك صفوف الملائكة، ومتظاهراً بكمال الطاعة لله، فلما أراد الله أن
يكشف عنصره ويبرز خبيئة نفسه، أمر الملائكة –وإبليس بينهم- أن يسجدوا لآدم، فسجد
الملائكة كلهم، إلا إبليس أبى واستكبر أن ينصاع لأوامر الله تعالى وفي قلبه على
آدم حقد وغل وحسد، فطرده الله من رحمته ولعنه.
فلو تأملنا في
سر امتناع اليهود عن قبول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم والسعي في محاربته،
لعلمنا أنها هي نفس المشكلة التي منعت إبليس من السجود لآدم عليه السلام(6).
ولو أن داء
الحسد كان قد منعهم من قبول النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته فحسب لكان الخطب
هيّناً، لكنهم انحدروا بالحسد إلى مهاوي الردى، حتى تمنوا أن لو كفر كل الناس مثل
ما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل تجاوز الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ
تحول الحسد الدفين إلى واقع عملي ملموس حين ادَّعوا أن الوثنية الجاهلية أقومُ
قيلاً وأهدى سبيلاً من الإيمان بالله ورسوله.
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ
نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً {51}
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ
نَصِيراً) (النساء)، فاستحقوا بهذا الزور والبهتان اللعن من الله تعالى
والطرد من رحمته.
أثر الحسد اليهودي في العصر الحديث
وهكذا لم يكن
حسدُ اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين حدثاً طارئاً في حقبة زمانية
معينة، بل هو داءٌ قديمٌ ضاربٌ بأطنابه في عمق التاريخ، منذ أن بعث الله نبيه صلى
الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فأغمضوا أبصارهم عن أنواره، ثم توارثته القلوب
قبل أن تتناقله الأجيال، فصار الحسد عندهم عقيدة وخُلقاً ملازماً لهم عبر الأزمان،
وسلوك عداء يمارس في كل مكان، فتراهم الآن يتحالفون مع النصارى والشيوعيين
والملحدين، ومع كل الملل الباطلة سعياً منهم في القضاء على دين المسلمين وعقيدتهم،
أو ردهم عنها قدر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
لكن سنن الله تعالى لا تحابي أحداً بحال؛ فكم حاولوا أن يطفئوا نوراً، فأبى الله إلا أن يتمه، وكم كادوا لأمة فما زادها الكيد إلا وعياً وثباتاً وهمة، وستبقى هذه الأمة –ما تمسكت بوحي ربها– أقوى من كيد الحاسدين، لأن الله ناصرُ دينه، ولو كره الكافرون.
اقرأ أيضاً:
_________________
(1) تفسير ابن
كثير.
(2) مكايد
يهودية عبر التاريخ: عبدالرحمن حبنكة.
(3) تفسير ابن
كثير سورة «الأنعام».
(4) الشخصية
اليهودية في القرآن: صلاح الخالدي.
(5) السيرة
النبوية لابن إسحاق بسند قوي، وهو عند البيهقي.
(6) مكايد يهودية، بتصرف.