الإلحاد والإباحية والشذوذ.. أزمات كبرى للإنسانية

مصطفى عاشور

07 يوليو 2024

2796

«الذين ينكرون وجود الله يدمرون نبل الإنسان»، عبارة كتبها قبل 400 عام المفكر الإنجليزي فرنسيس بيكون، مؤكداً أن الإلحاد سطحي فكرياً، وضار أخلاقياً، وأن القليل من الفلسفة يحرك عقل الإنسان نحو الإلحاد؛ لكن التعمق في الفلسفة يقود عقول الرجال إلى الدين، فالإلحاد ليس محايداً أخلاقياً، ولكن يقف وراء أزمات حياتية كبرى للإنسانية، بعدما أزال الموانع الضميرية التي تحول بين الإنسان والخطيئة.

مشكلة الإلحاد الكبرى أن الأخلاق التي ينتجها مرتبطة بالنفعية الشديدة، وضرورة حضور الرقابة الدائمة على الإنسان، فإذا غابت الرقابة انزاحت الحواجز المادية بين الإنسان والرذيلة، فيقترفها دون أي وخز داخلي، فيتدفق الفعل الأثيم إلى السلوك دون مقاومة أو مدافعة داخلية.

في القرن السادس عشر، عانى الإلحاد في الغرب من النبذ الاجتماعي، وكانت الصورة الذهنية أن الإلحاد خطر على أخلاق المجتمع، ومُهدد لنسيجه الاجتماعي وقواه الأخلاقية، لأن الملحدين يفتقرون إلى المعايير الأخلاقية المؤسسة على الدين، لكن الغريب أن هذه الرؤية ما زالت موجودة حتى الآن في مجتمعات غربية، فصاغها الأديب الروسي دوستوفسكي في رواية الشهيرة «الإخوة كارامازوف»، على لسان أحد أبطال الرواية قائلاً: «كل شيء في غياب الله مباح»؛ وهو ما يعني أن وجود الإيمان والضمير ضابط داخلي للسلوكيات المنحرفة والمدمرة، وكذلك أثبتتها استطلاعات للرأي ودراسة أنجزت عام 2014م، بعنوان «لا خير بدون الله»، وأكدت أنه يُنظر للملحدين كمهددين للقيم والأخلاق، وأن هذا يثير الاشمئزاز منهم.

المنطق الإلحادي في الجانب الأخلاقي يتوارى خلف العقل، ويزعم أن الشر والخير هو ما يحدده العقل، وليس أي شيء آخر، وأن الإنسان لا يحتاج إلى الدين ليحدد له تلك المعايير، هذا الزعم حول العقل من أداة للرؤية والإدراك، إلى جوهر قادر على وضع المعايير.

لكن الحقيقة أن العقل غير قادر بمفرده على تعيين الخير والشر، ولكنه يحتاج أن تُحدد له تلك المعايير من خارج ذاته، ومن جهة متعالية سامية، لتكون المعايير عامة وغير متحيزة، والمنطق يقول: إننا نحتاج إلى كلمة من خارج أنفسنا الضيقة لتحدد لنا الصواب والخطأ، ومن ثم فالإلحاد غير قادر على إنتاج أخلاق، من الناحية الفلسفية، وهنا ينفتح الإلحاد على النفس بما فيها من فجور وآثام، لتأتي الانحرافات الجنسية بكافة أشكالها لتكون قرينة لمسيرة الإلحاد المعاصر.

لكن المثير أن الإلحاد نفسه يعترف بوجود أخلاق عامة ويقيس سلوك الناس عليها، مثل خيانة المواطن لبلده أو تحالفه مع الأعداء، لن يستطيع الإلحاد أن يزعم أن العقل الفردي هو من يحدد معايير الخيانة للوطن، ولن تجد أحداً يوافقه على هذا الرأي، وسيواجهه المجتمع والسلطة والقانون بعنف وقسوة، ولن يجد له مساندة في الإعلام، أو تمجيداً لفعله، ولكن إذا طالب هذا الملحد بالانحلال والشذوذ والفوضى الجنسية سيجد من يحميه ويدافع عنه، رغم أن الانحلال مدمر لنسيج المجتمع وقواه.

أثبت دراسات أن الأفراد المتدينين هم الأقل استخداماً للمواد الإباحية، وأن الأفراد الذين لا يستخدمون المواد الإباحية لديهم رؤى دينية ويمارسون شعائر دينية، وعلى النقيض يزيد استخدام المواد الإباحية مع ضعف الروابط الدينية، ولعل هذا ما يؤكد أن الدين كان دوماً أهم منظّم للجنس في التاريخ الإنساني، وتغييب الدين يؤشر لفوضى جنسية مدمرة.

لذلك ظهر مصطلح «الإلحاد الجنسي» (Sexual Atheism) الذي ينظر إلى الجنس كما «لو أن الله غير موجود»؛ أي أن الرغبة والظروف هي ما تحدد للملحد ممارسة الجنس، إذ لا يُنظر إليه كخطيئة، ولعل الترويج للإلحاد المعاصر، وتغييب الدين كمحدد للأخلاق والسلوك دفعت 53% من الأمريكيين في استطلاع للرأي أجراه معهد «جلوب» قبل أكثر من عقدين أن يجيبوا بنعم على ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، بل يعتبرونه أمراً مقبولاً، لكن هذه النسبة ارتفعت مع الرقمية، وانتشار المواد الإباحية على الإنترنت، وهو ما شكل تهديداً لوجود الأسرة والزواج في الولايات المتحدة.

تحدث كتاب صدر عام 2022م، بعنوان «ثلاث ثورات جنسية: الكاثوليكية والبروتستانتية والإلحادية»(1) للبروفيسور ديفيد كارلين عن 3 ثورات جنسية أثرت في الغرب؛ وهي الكاثوليكية التي نظمت الفوضى الجنسية في الإمبراطورية الرومانية، والبروتستانتية التي أثرت في مجتمع الأديرة والرهبنة وسمحت لهم بالزواج وهو ما خفف من انحرافات الكهنة، وكذلك سماحها بالطلاق في حال الزنى، أما الإلحادية التي تبيح الزنى والانحلال الأخلاقي، وهو ما جعل المجتمع الأمريكي أسوأ مما كان عليه في الستينيات من القرن الماضي، فالانحرافات الجنسية الحديثة لا حدود لها، وأدى الإلحاد إلى فقدان كل الأخلاق الجنسية المسيحية.

إلحاد وإباحية

خلصت دراسات إلى أن الملحدين في الولايات المتحدة أكثر ميلاً للنظر للانحرافات، مثل الزنى والشذوذ وتعاطي المخدرات على أنها مقبولة من الناحية الأخلاقية، فبعض دعاة الإلحاد هم أنفسهم من دعاة الإباحية والشذوذ والاستغلال الجنسي للأطفال، مثل هاري هاي (ت 2002م)، حيث كان ملحداً ومن أكبر دعاة الشذوذ، وأسس جمعيات للدفاع عن الشذوذ والاستغلال الجنسي للأطفال.

وتقدم الخبرة الغربية نموذجين للتلازم بين الإلحاد والإباحية والانحلال، النموذج الأول الدنمارك، وهي من الدول الأكثر إلحاداً في العالم، ففي العام 2005م، صنفت في المرتبة الثالثة كأكثر الدول إلحاداً في العالم، وفي العام 2017م أظهرت استطلاعات للرأي أن نسبة من يوقن بوجود الله تبلغ 15%، وأن 46% لا يؤمن بوجود الخالق سبحانه وتعالى.

وفي المقابل، كانت الدنمارك تحتل مستويات عالية في الإباحية، فهي من أكبر دول العالم إنتاجاً للمواد الإباحية التي تستهدف الأطفال، منذ أن أزالت القوانين المانعة لإنتاج وبيع المواد الإباحية عام 1969م، وهو ما أشعل انفجاراً جنسياً، فصدرت فيها أول مجلة إباحية للأطفال في العالم قبل 5 عقود، وقد بلغ بها عدد المواليد غير الشرعيين 54% عام 2018م.

وصنفت الدنمارك كثالث دولة أوروبية داعمة للشذوذ الجنسي عام 2023م، وهي من أوائل الدول التي اعترفت بالشذوذ، وشرعت زواج الشواذ، بحسب استطلاع للرأي نشرته المفوضية الأوروبية عام 2023م، فإن غالبية الدنماركيين يؤيدون زواج الشواذ بنسبة 69%.

أما النموذج الآخر فهو هولندا التي احتلت عام 2005م المرتبة الثالثة عشرة بين أكثر الدول إلحاداً في العالم، ووصلت نسبة الإلحاد فيها إلى 44%، رغم أنها أول دولة بروتستانتية، وتشير إحصائية إلى أن 22% فقط من السكان يعتبرون أنفسهم مؤمنين.

هذا الانتشار الإلحادي أدى إلى تفكك للنسيج الذي تأسست عليه هولندا، فانكمش الدين والتدين بصورة مزعجة للغاية، وأغلقت الكثير من الكنائس أبوابها؛ ما تسبب، وفق تقرير عام 2022م، في انخفاض عدد الكاثوليك -الطائفة الدينية الثانية في البلاد- الذين يذهبون إلى الكنسية من 80% في الخمسينيات من القرن الماضي إلى 3% فقط!

وقد أدى هذا الإلحاد و«اللاأدرية» الدينية (لا أدري هل هناك إله) إلى مساعي لإرواء الظمأ الروحي من خلال الانغماس في الجنس، فنجد أنه في العام 2022م ولد أكثر من 71 ألف طفل غير شرعي، وهو ما يعادل 42% من الأطفال الذين ولدوا خلال ذلك العام، ومع تحول البحث عن الدين والمعنى إلى أمر فردي، يتحول الجنس والإباحية إلى وسيلة للخلاص، وهو ما يمثل حالة من العدمية للفرد والمجتمع.

       

_________________________

(1)   Three Sexual Revolutions: Catholic, Protestant, Atheist.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة