مجاهدون ارتبطت أسماؤهم برمضان..
بلال بن رباح.. مؤذن الرسول ﷺ

الموالي لا عتاب
عليهم ولا حساب ولا تكليف، هكذا وضعت البشرية حساباتها حتى أتى بلال بن رباح، مؤذن
الرسول صلى الله عليه وسلم، معلماً البشرية أن النفوس الذهبية لا قواعد ثابتة
لوجودها ولا شروط، وأن الله عز وجل حين يريد بإنسان خيراً، فلا قيود لتلك الخيرية
ولا مانع لها.
وها هو بلال
الحبشي مولى أمية بن خلف القرشي، يقاوم سفاسف النفس الإنسانية ليصير سيداً، وليقل
عنه عمر بن الخطاب، كما قال ابن المنكدر عن جابر، أنه حين كان يذكر أبو بكر، وبلالاً،
يقول: «أبو بكر سيدنا أعتق بلالاً سيدنا» (أخرجه البخاري).
إن المولى موكول
إلى مولاه، لا يرقى طموحه إلا أن يرضى عنه سيده، وإذا تطور ذلك الطموح فهو أن
يعامله ذلك السيد معاملة حسنة من الإطعام والملبس والمأوى الذي يعطيه لحيواناته،
أما أن يتفوق العبد على سيده في الحرية، والعمل، والطموح، والرقي، والاهتمامات
الإنسانية التي لا يهتم بها إلا أهل المجد والريادة الإنسانية فيصير في أول صفوف
هؤلاء، ويصير من أول سبعة جهروا بإسلامهم دون اعتبار لبيئة الكفر المحيطة بهم،
ودون اعتبار لمصائرهم المجهولة بين صناديد الكفر وصلف سادة قريش، ويصير التوق إلى
الجهاد هو الدافع الأول للحياة والغاية منها، فهؤلاء ليسوا أناساً عاديين، وليسوا
من طبقة دنيا من البشر كما حسبهم الناس، بل هؤلاء هم سادتها.. إنه سيدنا بلال بن
رباح.
من
هو بلال الحبشي وقصة إسلامه؟
هو بلال بن رباح
رضي الله عنه، كان عبداً عند عبدالله بن جدعان، ثم اشتراه أبو بكر الصديق لينقذه
من تعذيب قريش وغلمانها، فصار مولى لأبي بكر رضي الله عنه، كني بأبي عبدالرحمن،
وأبا عبدالكريم، وكان بلال أول من آمن من العبيد(1)، حيث كان يرعى غنماً
لعبدالله بن جدعان، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه أبو بكر الصديق، فطلب
منه اللبن، فأخبره بلال أنه ليس معه إلا شاة واحدة، فطلب منه النبي صلى الله عليه
وسلم أن يأتيه بها، فحلبها النبي صلى الله عليه وسلم وشرب حتى ارتوى، ثم سقى أبا
بكر، وبلالاً، فكانت الشاة أنشط مما كانت عليه، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم
إلى الإسلام فأسلم بلال(2).
وظل يتردد على
النبي صلى الله عليه وسلم لثلاثة أيام حتى تعلم الإسلام، لتبدأ إرهاصات التغيير
الكبير على شخصية بلال بن رباح، بلال العبد الذي لا يشغله سوى إشباع الأغنام
والسعي بها هنا وهناك لسيده، تحول اهتمامه لمقتضيات عقيدة التوحيد، تلك الاهتمامات
التي لا تشغل سوى الكبار.
فحين علمت قريش
بإسلامه عذبه سيده تعذيباً شديداً، ثم أهداه لأبي جهل، وأمية بن خلف؛ ليفعلا به ما
شاءا(3)، ومنذ ذلك الحين، وقد ظهر معدن بلال القوي رغم وهن جسده في حفظ
دينه بجسده وروحه، بلال الذي تلقى تعذيباً من قريش لم يقدر عليه أحد غيره، حيث كان
الغلمان يدورون به في أزقة مكة وقد جعل أمية بن خلف في عنقه حبلاً وهو لا يردد
سوى: «أحد أحد»(4)، كان أمية يخرجه في حر ظهيرة مكة ورمالها الحارقة،
ويضع على صدره صخرة ليرجعه عن دينه، فلا يردد سوى: «أحد أحد»، وكان يقول: لو أعلم
كلمة تغيظهم أكثر منها لقلتها لهم!
جهاد
بلال بن رباح
كانت حياة بلال جهاداً
منذ اللحظة الأولى لإعلان إسلامه، وحين تحدى صناديد الكفر في إعادته عن إسلامه،
فوقف بقوة إيمانه أمام قوتهم وصلفهم لينتصر بالله وحده، ومع قوة الإيمان تلك، شاهد
جميع الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم ليبدأ بـ«بدر»، ويختم حياته بالشام
مجاهداً حتى لقي الأحبة محمداً وصحبه، كما ردد دائماً.
وفي «بدر»، شاهد
من بعيد أمية بن خلف الذي أذاقه مر التعذيب يوماً، فتزداد حمية بلال العبد الحبشي
الذي يقف في مصاف المؤمنين ليكون أخاً لمن اشتراه يوماً وأعتقه، فيهتف بلال قائلاً:
لا نجوت إن نجا أمية، فأخذ بأمية بن خلف حتى رماه عن فرسه وأجهز عليه، وكبر تكبيراً
كثيراً.
وظل بلال مجاهداً
مع نبيه ويؤذن له حتى توفي صلى الله عليه وسلم(5)، وفي عهد أبي بكر
الصديق استأذن بلال في الجهاد بالشام، فطلب منه الصديق أن يبقى معه حتى وفاته، وفي
عهد عمر بن الخطاب استأذنه في الجهاد، فطلب منه مثلما طلب أبو بكر أن يبقى معه
بالمدينة، غير أن بلالاً خرج إلى الشام مجاهداً.
ورأى بلال النبي
صلى الله عليه وسلم في رؤياه فاشتاق إليه ورجع إلى المدينة زائراً قبره، فجاءه
الحسن، والحسين؛ ليؤذن لهما، فصعد إلى سطح وأذّن، لتنفجر المدينة في البكاء
لتذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(6).
وفاته
توفي بلال في
الشام عام 20هـ، فبينما كان يحتضر كانت زوجته تبكي قائلة: وا كرباه وا حزناه!
فيقول بلال: بل قولي: وا طرباه، غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه! مات بلال الحبشي
ولم يترك لأحد حجة في ترك الجهاد محتجاً بالظروف وسوء الأوضاع المادية وعدم وجود
ظهير من العائلة أو القبيلة لحماية ظهره، فلقد كان الرجل بلا ظهير، بلا مال، وخرج
بنفسه لله غير عابئ بكل ما لاقاه، ليلاقي الله غير مبدل أو مقصر، رحم الله بلالاً،
وجزاه الله عز وجل عنا وعن الإسلام خيراً.
____________________
(1) السيرة
النبوية على ضوء القرآن والسُّنة (بتصرف).
(2) مرآة الزمان
في تواريخ الأعيان لابن الجوزي، ص331.
(3) المرجع السابق.
(4) الاستيعاب
في معرفة الأصحاب ليوسف بن عبدالله القرطبي، ج1، ص179 (بتصرف).
(5) بلال بن
رباح للدكتور راغب السرجاني.
(6) أسد الغابة،
ج1، ص243.