بيت النبوة.. ميثاق غليظ أم عقد عادي؟
يختلف الزواج في الإسلام وشكل الأسرة والهدف
من وجودها والمقصد من أحكامها الكثيرة عنه في الشرائع الأخرى، بل وفي كافة القوانين
الوضعية التي ادعت أنها تحافظ على حقوق المرأة.
بينما تشير النتائج الواقعية لحالة من الانهيار
الأسري غير المسبوق؛ ما يهدد الكيان الأسري ككل، فالزواج في الإسلام ليس مجرد عقد يربط
بين طرفين لقضاء مآرب جسدية عاجلة، وإنما هو ميثاق غليظ كما أسماه الله عز وجل في كتابه،
قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم
مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21)، وقال عز وجل معاتباً من يحاول استرداد
المهر إذا استحالت العشرة وتم الطلاق: (وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ
بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً {20} وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى
بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء).
النبي محباً
مثل البيت النبوي نماذج الحب غير المسبوق،
ففي وقت قد يستحي فيه الرجل من ذكر اسم زوجته في جمع من الناس، كان النبي صلى الله
عليه وسلم يصرح باسم عائشة أم المؤمنين، ويعلن للصحابة عن حبها، فعن عمرو بن العاص
أنه قال: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة»، قال: من الرجال؟ قال: «أبوها»
(رواه البخاري).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنت عليه وهو مضطجع
في مرطي، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني يسألنك العدل في ابنة أبي
قحافة، -وأنا ساكتة- قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي بنية، ألست
تحبين ما أحب؟»، فقالت: بلى، قال: «فأحبي هذه» (رواه مسلم).
ملاطفة النبي وممازحته لزوجاته
بعض الرجال يتعلل بانشغاله عن ملاطفة زوجته
وتخصيصها ببعض الوقت، فمن كان أكثر انشغالاً من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومع
انشغاله فقد كان يداعب زوجاته ويلاطفهن ويمازحهن.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنتُ أتَعرقُ
العظم (آكل منه بأسناني) وأنا حائض وأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فَمَهُ في
الموضع الذي فيه وَضعتُهُ، وأشرب الشراب فأنَاوِلَهُ، فيضع فمه فِي الموضع الذي كنتُ
أشرب منه» (رواه مسلم).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أغتسل
أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه، فيبادرني حتى أقول: دعْ (أترك)
لي، دع لي» (رواه مسلم).
النبي في خدمة بيته
لخصت السيدة عائشة رضي الله عنها الحياة الزوجية
للنبي صلى الله عليه وسلم بين زوجاته، فعن الأسود قال: سألت عائشة: ما كان النبي صلى
الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى
الصلاة. (أخرجه البخاري).
احترم النبي لعقل المرأة
بعض الرجال يستهينون بعقل المرأة، ولا يحفظون
من حديث النبي صلى الله عليه وسلم غير أنهن ناقصات عقل ودين، وحين تواجهه مشكلة ما
يذهب بها بعيداً عن بيته بين أصدقائه أو أهله، ثم هي لا تجد منه إلا وجها مكفهراً غاضباً
دون أن تدري ما به، وإن سألته لا يجيب، أو يجيب بتأفف وتردد واقتضاب، بينما سيد الخلق،
وفي أمور تخص الأمة، يستشير زوجاته، ويأخذ برأيهن.
لقد أخذ النبي الله صلى الله عليه وسلم بمشورة
أم سلمة، فعندما حدث صلح الحديبية بين المسلمين والكفار، وكان من شروط الكفار ألا يدخل
المسلمون في هذه المرة لزيارة الكعبة ويعودوا العام القادم، وبعدما فرغوا من كتابة
وثيقة الصلح طلب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن ينحروا ويحلقوا ولكن لم يقم
أحد منهم وأعاد النبي صلى الله عليه وسلم طلبه ثلاث مرات ولم يفعلوا!
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة
فذكر لها ما حدث من المسلمين فقالت رضي الله عنها: يا نبي الله، أتحب ذلك؛ اخرج ولا
تكلم أحداً حتى تنحر بدنك (ذبيحتك) وتدعو حالقك فيحلقك.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وفعل بمشورتها،
فما كان من المسلمين إلا أن نحروا وحلق بعضهم لبعض(1).
صبر النبي على الأزمات الطارئة
لا يوجد بيت مهما بلغت درجة الحب والمودة
والتفاهم فيه خالٍ من المشكلات الطارئة، لكنها مشكلات تحمل حجماً لا يضع البيت في وجه
عواصف تطيح به، فمع أول المشكلة تطلب منه الانفصال، ومع مشكلة أخرى، نجده يشكوها هنا
وهناك ويخطئ بحقها أو يهينها ويتهمها.
وكان بيت النبوة تعتريه أحياناً بعض المشكلات،
فعن النعمان بن بشير، قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع
عائشة وهي رافعة صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له، فدخل، فقال: يا ابنة
أم رومان وتناولها، أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فحال النبي
صلى الله عليه وسلم، بينه وبينها.
فلما خرج أبو بكر جعل النبي صلى الله عليه
وسلم، يقول لها يترضاها: «أَلَا تَرَيْنَ أَنِّي قَدْ حُلْتُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَكِ»،
قال: ثم جاء أبو بكر، فاستأذن عليه، فوجده يضاحكها، قال: فأذن له، فدخل، فقال له أبو
بكر: يا رسول الله، أشركاني في سلمكما، كما أشركتماني في حربكما. (مسند الإمام أحمد).
________________
(1) ابن هشام، السيرة النبوية، ج3 ص 337.