بين «سحر البيان» و«بيان السحر».. كيف حددت اللغة مصير الساحر؟
من القواعد
المستقرة عند أهل العلم أن «الإعراب فرع المعنى»، لكننا في قضايا الأحكام الشرعية
نجد أن الإعراب ليس مجرد توضيح للمعنى فحسب، بل قد يكون «أساس الحُكم»؛ فتغيير
موقع كلمة أو تقدير ضمير قد ينقل الحكم من الإباحة إلى التحريم، أو من المعصية إلى
الكفر، كما هي الحال في المسألة الشائكة حول «كفر الساحر».
فبينما يتفق
الفقهاء على حرمة السحر، فإنهم اختلفوا في توصيف فاعله: هل يكفر بمجرد فعله ويُقتل
حداً وردة، أم أن فعله معصية كبيرة لا تخرجه من الملة إلا باعتقاد؟
هذا الخلاف
الفقهي الكبير يعود إلى الاختلاف في التوجيه الإعرابي لجملة «يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ» في قول الله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) (البقرة:
102)، وعلاقتها بما قبلها «كَفَرُوا».
وذلك على النحو
التالي:
الرأي الأول: السحر هو عين الكفر:
ذهب جمهور
العلماء والمفسرين إلى أن العلاقة بين «كفروا» و«يُعلِّمون» علاقة تلازم وترابط،
واستندوا في ذلك إلى عدة تخريجات نحوية تؤدي كلها للنتيجة الفقهية نفسها، على
النحو التالي:
الأول: وهو أشهر
الأوجه الإعرابية عندهم، وهو أنها حال من الضمير في «كفروا»؛ أي أنهم كفروا حال
تعليمهم الناس السحر، وهنا يكون الحكم بالكفر مرتبطاً بتعليم السحر؛ فالحال قيدٌ
لعاملها، وهو ما يربط الكفر بقرينة التعليم ربطاً وثيقاً.
الثاني: أنها
حال من «الشياطين»، لكن رده بعضهم بأن «لكن» لا يعمل في الحال، لكن رد عليه بعض
آخر بأن «لكن» هنا فيها رائحة الفعل.
الثالث: رأى
بعضهم أن جملة «يعلمون» بدل من جملة «كفروا»؛ والمعنى هنا خطير جداً؛ فهو يعني أن
كفرهم هو ذاته تعليمهم للسحر (أبدل الفعل من الفعل).
الرابع: أن جملة
«يعلمون الناس السحر» يمكن أن تكون جملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب، وكأن
سائلاً سأل: بمَ كفروا؟ فجاء الجواب التفسيري: بتعليمهم الناس السحر.
بناء على كل هذه
التوجيهات اللغوية يكون الحكم الفقهي للسحر أنه كفرٌ بذاته، والساحر كافر يُقتل
ولا يُستتاب؛ لأن النص القرآني جعل السحر تفسيراً للكفر أو بدلاً منه، ومن العلماء
من اشترط الاستتابة، ومنهم من ربط الحكم بالكلام الذي يقوله الساحر.
الرأي الثاني: السحر عصيان وفسق وليس كفراً:
في المقابل، ذهب
فريق آخر إلى محاولة فصل السحر عن الكفر في السياق التركيبي، مستندين إلى توجيه «يعلمون
الناس السحر» على أحد وجهين:
الأول:
الاستئناف؛ حيث رأوا أن الكلام تمّ واكتمل عند قوله تعالى: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)،
ثم ابتدأ الله خبراً جديداً وقصة جديدة فقال: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)، وهو المختار
عند ابن حزم الظاهري، وقد رجحه أبو حيان في «البحر المحيط»، وعلق عليه ابن عادل
الدمشقي بأنها استئنافية إذا أعدنا الضمير من «يعلمون» على «الشَّيَاطين»، أما إذا
أعدناه على «الذين اتَّبَعُوا ما تتلو الشَّياطين»؛ فتكون حالاً من فاعل «اتبعوا»،
أو استئنافية فقط.
وفي هذا السياق،
يرى ابن حزم أن الكلام تم عند قوله تعالى: «كفروا» وكملت القصة، وقامت بنفسها
صحيحة تامة «ولكن الشياطين كفروا»، ثم ابتدأ تعالى قصة أخرى مبتدأة، وهو: «يعلمون
الناس السحر»؛ فـ«يعلمون» –حسب رأيه- ابتداء كلام لا بدل، وزيادة في الدفاع عن
رأيه ذهب إلى أنه لو اضطررنا للقول بأنها بدل؛ فإنه يكون حكماً خاصاً بالشياطين
بعد سليمان عليه السلام، وهي شريعة لا تلزمنا.
الثاني: تعدد
الأخبار؛ حيث رأوا أن «يعلمون الناس السحر» خبر ثانٍ لـ«الشياطين»، والخبر الأول
هو «كفروا»، وتعدد الأخبار لا يقتضي تلازمها بالضرورة.
وبناء على هذين
التوجيهين النحويين يكون حكم الساحر أنه عاصٍ ومرتكب لكبيرة، لكنه ليس كافراً
بالضرورة، ولا يُقتل إلا إذا اقترن سحره بما يوجب الكفر عقيدة، أو أحدث ضرراً يوجب
القصاص، وحجتهم أن الآية أثبتت لهم الكفر أولاً، ثم أخبرت عن فعلهم للسحر ثانياً
بشكل منفصل.
الترجيح بين يدي اللغة
عند التأمل في
الأدلة اللغوية، نجد أن محاولة «الفصل التام» بين الجملتين –كما حاول ابن حزم-
تواجه إشكالات بلاغية وسياقية؛ فالقرآن الكريم في مقام ذم وتشنيع، وسياق الآية جاء
لتبرئة سليمان عليه السلام من «الكفر» (الذي هو السحر في زعم اليهود) وإلصاقه
بالشياطين.
فابن حزم ومن
ذهب مذهبه في هذه المسألة ردّوا وجهاً إعرابياً واحداً، وهو البدلية من «كفروا»،
وإن سلمنا لهم بذلك تبقى الأوجه الإعرابية الأخرى التي ذكرها النحاة ومعربو القرآن
التي تؤدي إلى الاستدلال الذي حاول ابن حزم رده، وهو كفر الساحر.
فالقول بأن «يعلِّمون»
حال من الضمير في «كفروا» يعني أنهم كفروا حال تعليمهم الناس السحر، والقول بأنه
حال من الشياطين يؤدي للمعنى نفسه أو قريباً منه، وكذلك القول بأنه بدل، وكذلك
القول بأنه خبر ثان للشياطين، إلا أن القول بأنه خبر ثان ربما لا يدل على علاقة
مباشرة بين كفرهم وتعليمهم الناس السحر؛ فهو تعدد الأخبار التي لا ينبني أحدها على
الآخر.
وفي الختام، فإن
هذه الآية الكريمة تُعد مدرسة في بيان كيف يوجه الإعرابُ الفقهَ؛ فمن رأى «يُعَلِّمُونَ»
مقترنة إعرابياً بـ«كَفَرُوا» أعمل السيف في رقبة الساحر حماية للعقيدة، ومن رآها
جملة جديدة منقطعة عما قبلها، حكم بالفسق والعصيان دون الكفر.
وهكذا يتجلى
الفارق بين سحرٍ يُضل العقول ويفرق بين المرء وزوجه، وسحر بيان يهدي العقول ويجمع
القلوب؛ حيث يغدو الإعراب في كتاب الله ميزان قسط، يضبط المعنى ويحرس العقيدة،
ويضع الأمور في نصابها الدقيق، فسبحان من أودع في تراكيب العربية أسراراً دقيقة،
تجعل من «المحل الإعرابي» حكماً فاصلاً في مصائر العباد، وكاشفاً لحقائق الاعتقاد!
اقرأ
أيضاً:
- بلاغة التصوير القرآني لشخصية المنافق في مطلع سورة
"البقرة"
- مفارقة الصلاة والرياء.. تحليل بلاغي لصفات المكذب بالدين فيسورة
"الماعون"