ثمَّ كذَّبوك يا محمد ﷺ (8)
بين غزة وإمداد اليمن!

أليست مفارقة تنتظم العجب، أن يتبدى إمداد اليمن قديمًا بقوة وهو يُعضد
صورة شروق الإسلام في عصر الخلفاء، ثم تتدافع القرون قرن يـدفع قـرنًا، ويتبدى
اليوم إمداد اليمن بجـرأة وقوة مع غيره من إمدادات خجلى للغاية وهو يحاول إزالة
صورة غروب غزة؟!
إن صور الأمم تتراءى في التاريخ تشرق وتغرب، تخفت وتُضيء، تحزن وتبتسم،
وصورة غزة الآن في طريقها للشروق بعد الغروب، والضياء بعد الخفوت، والبسمة رغم أنف
فوادح امتدت لسنوات، وفواجع اشتدت لعقود ولا ينتظمها إلَّا الخيال المريض.
لننظر إمداد اليمن قديمًا بين تفاصيل معجزة شريفة، وحديثًا بين تفاصيل أيام
كادت تُعدم الشرف، قال قائل: وصل إمداد اليمن(1) وترامى النبأ بين
أحياء المدينة، حتى نما إلى علم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فراعه
وروعه(2)، راعه النبأ لأنه طال انتظاره له، لا لشيء إلا للقاء رجل من
أهل اليمن، وروعه إشفاقًا من عدم حضور الرجل، وكم طاف به الخيال متمنيًا اللقاء،
فخرج يهرول غير مترفق بنفسه، يختلج صدره خوفاً وفرحاً، ويتمتم: وصل إمداد اليمن
ترى هل أنت واجده فيهم يا ابن الخطاب؟
ترى من الرجل، وفيم يريده أمير المؤمنين، وأما كان بمقدوره أن يرسل من ينظر
له هل أتى أم لا؟
أجل كان في مستطاعه ذلك، وكان خليقًا بذلك، ولكنه خفَّ بنفسه ولسان حاله
يتمنى لقاءه.
وما إن وصل عمر إلى الجمع اليمني حتى جعل يدير عينيه يمنة ويسرة، يُقصر
بصره ويمدَّه، سائلًا: أفيكم أويس بن عامر؟ ويعلم الله وحده كم قال القائل: وصل
إمْداد اليمن، وكم هرول عمر وسأل: أفيكم أويس بن عامر؟
وهدأت نفس عمر، وترقرقت عيناه بعبراتها حينما وقع في سمعه صوت غشيت نبراته
بأدب وهدوء يقول: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين، ولأن أولياء الله إذا رؤوا ذُكر
الله كبـَّر عمر حينما التمسه ورآه.
ثم حدَّق وهو يسأل مؤكدًا: أنت أويس بن عامر القرني؟ فأجاب الرجل: نعم يا
أمير المؤمنين، فسأل عمر: من مراد(3) ثم من قرن(4)؟ فرد
الرجل متعجبًا: نعم يا أمير المؤمنين، وزادت مساحات التعجب على وجهه، عندما عاد
عمر يسأل: كان بك برص(5) فَبَرِئت منه إلا موضع درهم؟ نعم يا أمير
المؤمنين! فزاد عمر مبتهجًا كمن وصل إلى ما يريد: ليس لك باليمن غير أم، فرد أويس
في تعجب، وحيرة، واستسلام: نعم يا أمير المؤمنين!
يبدو لي أن التعجب الذي بدا على وجه أويس بدا على وجه أحد القراء وهو
يتساءل: هل كان عمر يعلم الغيب؟! ثم يستطرد (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ
يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) (الأنعام: 59).
فنقول: بيد أن أويسًا كان من ذوي المنزلة الخاصة عند الله، منزلة تقتضي
إجابة الله لدعائه، وتجلَّى ذلك عندما قال عمر ليزيل التعجب من نفس أويس ويحل محله
إحساس لا قبل لنا بوصفه: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي عليكم أويس
بن عامر مع إمْداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فَبَرأ منه إلا موضع
درهم، له والدة هو بها برّ، لو أقسم على الله لأبرَّه فلو استطعت أن يستغفر لك
فافعل»(6).
ولأذهانكم أن تشرد كيفما شاءت في رسم أحاسيس أويس وقتئذ، ولأخيلتكم أن
تُطلق من أعنـَّتها لتتبُّع تلكم الأحاسيس، أما أنا فلا قِبَل لي بها، وما أستطيع
قوله: تأملوا الحديث ولسوف يبهركم ضياء إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم، التي
دائمًا ما تحدثت صادقة بطرق متباينة، ولغايات مختلفة، وصكَّت سمع القاصي والداني،
ولكنهم كذبوك يا محمد!
ونُسائل الأحداث وتُسائلنا: كيف بلغ أويس هذه المنزلة الإلهية، وارتفع إلى
تلك المكانة الربانية؟ نقول وقد يستقبل التقصير قولنا ويستدبره: ما نفهمه أن
أويسًا كان من أولياء الله الذين يمتلكون دينًا يهون كل شيء دونه ولا يهون، وما
نشعُره أن عمرًا كان يلتمس كل سبب يحمله إلى رضاء الله، ويسلك كل المسالك يسيرها
وعسيرها إلى ذلك، وكلنا نعرف من عمر، وبالرغم من أنه عمر إلا أنه يرى أن لقاء أويس
فرصة وعليه إجادة استغلالها؛ لذا نظر إليه مُفْصحًا عن أمنية مُلِئت بها نفسه «فاستغفر
لي»، وامتلأ ضمير عمر هدوءًا وبهجة، واضطربت في عينيه عَبْرَة حينما سمع أويسًا
يقول: «اللهم اغفر لأمير المؤمنين».
وإنه لمن الظلم لعمر إن لم نقل: لقد طلب عمر الدعاء من أويس وكان رضي الله
عنه أفضل من أويس، وإنما نوفيه حقًا إذا قلنا: فلئن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم
عن أويس، قائلًا: «فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل»، فإنه هو الذي أخبر عن عمر،
قائلًا: «لو كان نبي بعدي لكان عمر»(7)، ولكن لأنه كان يحث الخطى صوب
الجنة، فقد امتلأ يقينًا بحاجته إلى دعوة من أويس الذي أتى منزويًا بين إمداد
اليمن لا يعلم أحد بأمره ولا يعيره أقل لفتة، وما زالت عيونه تنظر إلى أويس تود لو
تسأله المزيد ولكنه يسأل في ترفق وحنو شديد: إلى أين يا أويس تريد؟ فيجيب أويس:
أريد الكوفة.
ولحب عمر لله فإنه لَيُحب من أحبه الله، لذا تمنى لو فعل شيئًا من أجل
أويس، فقال ألا أكتب لك إلى عاملها؟ وإنَّـا لنعلم كيف تكون مكانة أويس في الكوفة
لو حمل كتاب أمير المؤمنين إلى عاملها، ولكن موقفه كان مغايرًا تمامًا لقبول حياة
التكريم، مؤثرًا عليها حياة العامة الذي يشعر بأنس قلبه، وحبور روحه بينهم، وتألقت
تلكم الروح الزاهدة وهو يجيب: أكون في غبراء الناس أحب إلي.
إن كتابًا إلى عامل الكوفة أمر لا يعنيه ولم يبالِ به، وإن كان كاتبه أمير
المؤمنين، إن هذا الكتاب بحسابنا نحن كان سيمنعه الكثير من الويلات والمصاعب، ولكن
بحسابه هو فإن سَيَجُرّ عليه الكثير من المشاق والمتاعب، فأمثال أويس من أولياء
الله يخشون الركون إلى النعيم فيُحْرَمون منه في الآخرة، فمن أراد أن ينظر إلى
الزهد والتقشف فحسبه هذا الموقف دونما حاجة إلى موقف سواه، وقد كان بمقدور عمر بعث
الكتاب إلى عامل الكوفة من أجل أويس، ومع غير أويس، لولا أن عمرًا أسعده جواب أويس
لأنه كان من أولياء الله الذين يؤثرون حياة الزهد والتقشف، أليس هو القائل: «وددت أني
نجوت منها كفافًا لا لي ولا علي»(8)، فلئن كان يقين أويس بأن الكتاب
سينال من ورعه، فقد كان يقين عمر بأن أويسًا اختار الأمثل والأفضل، ليُذهلنا جلال
وجمال ما رأينا منهما وما سمعنا.
وانطلق أويس إلى الكوفة، ولما كان الزهد يدفع صاحبه دائماً إلى الظل، ويجنح
به إلى الهدوء، ظل في الكوفة على حاله هادئًا، منزويًا متقشفًا، ولم ينس عمر
أويسًا، وأبقاه حاضرًا في ذاكرته وفؤاده، وراح يتحين الفرصة ليسأل: كيف تجري به
الأيام؟
وبعد عام كامل التقى عمر برجل من أشراف الكوفة أتى حاجًا فسأله عن أويس،
بيد أن أويسًا كان يضع رغباته تحت أقدامه، ويبذل في زهده جهدًا خارقًا ونبيلًا
ليمسك على نفسه الحياة فحسب، فينفق أيسر الجهد في الحصول على سُبل العيش والمتاع،
وينفق بقية جهده في الجهاد والعبادة الموصولة؛ لذا أجاب الرجل عمر: تركته رث البيت
قليل المتاع، ولما كان عمر يعلم صلابة دين أويس، ولا يخشى عليه داء العُجْبِ(9)،
راح يقرّ بالفضل لأهل الفضل، ويُحدِّث الرجل بأمره، قائلًا: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: «يأتي عليكم أويس بن عامر مع إمْداد من أهل اليمن، من مراد،
ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برُّ، لو أقسم على
الله لأبرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل».
وما أن عاد هذا الرجل من الحج حتى قصد أويس متوسلًا: استغفر لي، فردَّ أويس
عارفًا للعبادة فضلها: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح فاستغفر لي، فكرر الرجل: استغفر
لي، فكرر أويس : أنت أحدث عهدًا بسفر صالح فاستغفر لي، فلمَّا أصر الرجل فطن أويس
للأمر فسأله: لقيت عمر؟ فأجاب الرجل: نعم، فاستغفر له أويس، وجعل الرجل يقرّ
بالفضل لأويس، ويحدّث الناس بأمره، فتكالبوا عليه طالبين الاستغفار.
ولأن أولياء الله يؤثرون التستر مع الله ويأملون موت شهرتهم، ولا تتصل
راحتهم مع تزكية الناس لهم، لم يجد أويس بدًا من التواري عن أنظار جميع من عرفوا
أمره، فانطلق على وجهه(10)، يخفي حاله ويكتم مع الله أسراره، وتمضي
الأيام ويبقى أويس في ضمير عمر مذكورًا بتقدير واحترام، وقديمًا وحديثًا انتشر خبر
النبي صلى الله عليه وسلم عن أويس ومَثُلَ على أجواز الفضاء، وتضوعت باستغفار أويس
طبقات الهواء، ونندفع هاتفين: ثُمَّ كذَّبوك يا محمد.
ويدفعنا الهتاف إلى الصراخ: أين عمر والقدس يقبع جريحًا خزيان؟ وأين أويس،
والأرض تطفح بخطايا الإنسان؟
_______________________
(1) الجماعة تأتي عونًا للجهاد مع المسلمين.
(2) جذب انتباهه، وأخافه.
(3) اسم قبيلة.
(4) فرع من قبيلة مراد.
(5) بياض يظهر على الجلد.
(6) حديث صحيح: أخرجه مسلم (2542).
(7) حديث حسن: أخرجه أحمد (4/ 154)، والترمذي (3686)، والحاكم (3/ 85).
(8) خبر صحيح: أخرجه البخاري (7218)، ومسلم (1823) باختلاف يسير.
(9) من أمراض القلوب، وهو إعجاب المرء بنفسه لوجود صفة فيه مثل المال أو
العلم، وينسب الفضل في وجودها فيه لنفسه، غافلًا عن المنعم عليه بها.
(10) هو أويس بن عمرو، وقيل أويس بن عامر وهو المشهور، وكنيته أبو عمرو،
وبقي حيًا حتى قال القائل: قُتِل بصفين (صحيح مسلم بشرح النووي ج16، ص94.