تأملات عائد من غزة

-
نجحت محاولتي الثالثة لدخول غزة مع الحملة الأوروبية الخامسة لمناصرة غزة
-
أول مشهد شاهدناه.. سيارة القائد القسامي الشهيد أحمد الجعبري المحطمة تمامًا..
ويا لهول المنظر الذي ينبئك عن حكايات كثيرة
-
زرنا أم الشهداء «أم نضال فرحات» والتي إن هدّها المرض فإنه لم ينل من عزيمتها..
تحدثك وكأنها من نساء السلف الصالح
-
تأملت الحالة المعنوية العالية لهؤلاء الشباب الصغار سنًّا والكبار همة ووعيًا..
الذين ينام الناس بينما هم مرابطون على الثغور
-
إسماعيل هنية استقبلنا في بيته المتواضع.. رجل ودود بشوش يخدم ضيوفه بنفسه
-
شاهدنا الدمار للمؤسسات والبيوت والملاعب الرياضية والجسور وهي تشكو إلى الله مكر
الماكرين وتخاذل المتخاذلين من حكام العرب
-
وتنجح المحاولة الثالثة الجادة، ودعك من الأماني والرغبات فتلك لا تسمن ولا تغني
من جوع
-
كانت الأولى في أسطول الحرية في مايو 2010م وكنا قاب قوسين أو أدنى من الوصول فليس
بين عسقلان وغزة سوى حوالي 20 كيلومترًا فقط وكان المانع هو العدو الصهيوني وما
كنا نعلم أن في ذلك الخير.. ولا نعلم أن علاقات دولة العدو ستنقطع مع تركيا لهذا
السبب وبتسعة شهداء فقط
كما لم نكن نعلم
أن ثورات عربية ستتفجر بسبب اكتناز الغيظ والقهر بحثًا عن الحرية المصادرة بعد
سبعة أشهر من هذا المنع والعدوان فقط تنقص قليلًا أو تزيد قليلًا.
وأما الثانية،
فكانت في الشهر السابع من العام نفسه 2010م في قافلة «أنصار2» عن طريق العقبة،
فكان النظام المصري هو العقبة في هذه المرة نظام المخلوع «حسني مبارك» الذي لم
يسمح بعبورنا إلى نويبع وبعد أسبوع من المحاولات والانتظار والمواعيد والاحتجاجات
رجع الوفد كله إلى عمان كسير الخاطر محزونًا.
محاولة ثالثة
ثم كانت هذه
المحاولة الثالثة في السابع من يناير 2013م، مع الحملة الأوروبية الخامسة لمناصرة
غزة، والتي ضمت مشاركين من خمس عشرة دولة، وكانت ميسرة بحمد الله، فمصر ليست مصر
الأولى، وإن كانت لم تتعافَ بعد، وسبحان مغير الأحوال.
تأملات لا
يحتملها مقال موجز أذكر أعمقها وأبرزها، وهي كثيرة حتى مع كثرة ما نُسي منها، وهي
تتزاحم في أولويتها:
- تهب على
الطريق الممتد من القاهرة إلى رفح، والذي يقرب من خمسمائة كيلومتر عواصف رملية
تقطع الطريق في مرحلتين، وتعطل مرور الحافلات، استوقفني استعداد الناس لإزالة
الرمال عن الطريق بأيديهم، لأنهم لا يملكون الأدوات اللازمة وبكل بشر وسرور مع شدة
البرد وأذى الرمال.
- بالرغم من
الانتظار على الحدود المصرية أكثر من ساعتين لختم الجوازات بآلية معقدة، والتي
رآها أهل الخبرة معنا نزهة قصيرة مقارنة مع ما كان عليه الوضع السابق في الأيام
الخوالي، عبرنا إلى رفح الفلسطينية المبتسمة لنا هذه المرة.. ركبنا حافلة فلسطينية
غير المصرية التي جئنا بها من القاهرة، سائقها يبتسم، بل هي تبتسم والأرض تبتسم،
وتقع أنظارنا على أول مشهد، وهو سيارة محطمة تمامًا هي سيارة القائد القسامي
الشهيد أحمد الجعبري، يرحمه الله شهيد العدوان الأخير على غزة في عام 2012م، ويا
لهول المنظر الذي ينبئك عن حكايات كثيرة صمتها أبلغ من النطق، فكنا بين مكبر ومسبح
ومترحم، وباك، ومعتز، ومتأمل.
قصص البطولة
- لم تنته قصة
الشهيد هنا إنما في زيارة بيته في اليوم التالي والاستماع إلى قصص البطولة التي
سطرها مع القادة الأخفياء الأتقياء من إخوانه، وما بدلوا تبديلًا.
ويختلط الألم
بالأمل فعلًا، فيرزق الله ابنه الأكبر المتبقي «مؤمن» الذي لم يتجاوز التسعة عشر
عامًا في اليوم التالي بمولود يسميه «أحمد» عسى أن يكون خير عوض، باركنا له به مع
رفيقي د. عبد الله فرج الله، فهو الله العظيم الذي يأخذ ويعطي، ويتلف ويخلف
سبحانه.
- تأملت نتساريم!
اسم انطفأ وإلى الأبد، فأصبح اليوم «المحررات»، أو جزءًا منها، تلكم هي المغتصبات
قبل تحريرها، والتي كان يسميها قادة الاحتلال «تل أبيب الثانية»، وهي تعطي خيراتها
من الفواكه والحمضيات والخضراوات ومزارع الدواجن وغيرها للمزارع الفلسطيني الغزي
الذي لم يكن يدخلها إلا خائفًا مستأجَرًا «بفتح الجيم»، أو منفذًا لعملية جريئة
مليئة بالمخاطرة.
أم الشهداء
- تأملت في
زيارة سريعة للمجاهدة أم الشهداء «أم نضال فرحات»، والتي إن هدّها المرض لكنه لم
ينل من عزيمتها.. تحدثك وكأنها من نساء السلف الصالح تحدثك حديث المجاهدات لا حديث
الثكالى فلله درها.
- تأملت بيت
الأعجوبة الإمام الشهيد أحمد ياسين، ورأينا بيته الفخم المغطى «بالإسبست» الذي
يدلف منه ماء المطر، ورأينا بقايا كرسيه المتحرك الذي أستشهد عليه، وهو عائد من
المسجد المجاور.. وماذا يقول أهل الأعذار المتعرقلون بعجزهم وخرافاتهم؟ ماذا نقول
نحن جميعًا!
معنويات مرتفعة
- تأملت الحالة
المعنوية العالية لهؤلاء الشباب الصغار سنًا، والكبار همة ووعيًا وتواضعًا الذين
ينام الناس بينما هم يلازمون أسلحتهم المتيسرة ترقب عيونهم الأخطار المتوقعة في
جنح الظلام تحسبًا من تسلل عدو غادر، وذهلت لما علمت أن من شروط إشغال هذه المواقع
أن يكون الشاب ممن يحافظون على صلاة الفجر في المسجد، فقلت: إن شعبًا فيه أمثال
هؤلاء لن يهزم بعون الله.
- تأملت تحت
الأنقاض بقية فستان طفلة صغيرة، وقد حرق معظمه وحقيبة صغيرة فيها بعض الدفاتر
شاهدة على الحقد في بيت عائلة الدلو المدمر بالعدوان الأخير، البيت الذي فقد تسعة
من أبنائه وبناته يرحمهم الله جميعًا.
- تأملت حال
مرافقنا الكريم «أبو أسامة» حفظه الله الذي لو أستطاع أن يجعل الدنيا لقمة واحدة
لكرمنا بها، ولو أستطاع أن يفرش طرفه لنا لفعل، وهو الرجل الكبير المسؤول المقدر
الذي يعرفه معظم أهل القطاع، وليس هو وحده بهذا الخلق الكريم والحمد لله.
مقابلة الرجل الأول
- تأملت حال
الرجل الأول في القطاع الدكتور إسماعيل هنية رئيس الحكومة الذي استقبل الوفد في
بيته المتواضع رجل ودود بوجه بشوش وبكلمات معبرة وباستماع لافت وبلسان يشكر العرب
كلهم ويعترف بالجميل، ولا يلوم المقصرين أو الغافلين عن واجبهم يخدم الضيوف بنفسه،
يتحرك هنا وهناك، ويتناسى «الإتيكيت» والأعراف المصطنعة كسبًا للهيبة، لكنه حاز
محبة كل من رآه واستمع إليه، ولا يتحرجون من مناداته: أبا العبد أبا العبد، لم
يتركنا إلا بعد أن حملنا التحية للأردن والأردنيين والأشخاص بأعيانهم.
- تأملت الدمار
للمؤسسات والبيوت والملاعب الرياضية والجسور وهي تشكو إلى الله مكر الماكرين
وتخاذل المتخاذلين من العرب الرسميين الذين ينتظر بعضهم متى تزول غزة عن الخارطة
ويبتلعها البحر، وجدنا بقية المصاحف التي تقاسمها الأوروبيون المشاركون وبقية
الحقائب والملابس الصغيرة وكراسي المقعدين وبقية أواني المطابخ والمقتنيات
البسيطة، سجلت الكاميرات المشاهد، كما ارتسمت في القلوب.. الأوضاع بدقة متناهية
واختلطت بالمشاعر الفياضة، ولكن اليد قصيرة مع ثقتنا أن مع العسر يسرًا وأن النصر
مع الصبر..
عزيمة وإرادة
- تأملت هذا
الشريط الصغير المحاصر، كيف استطاع أن يقهر مكر أكبر دولة مسلحة في العالم ليس في
المنطقة فحسب حتى اضطر الكيان الصهيوني إلى طلب الهدنة «والخائف المهزوم داخليًا
لن يصدق ذلك»؟
ماذا لو كان
عندنا شريط في الشرق أو الشمال أو الجنوب من مثل هذا الشريط؟
إنها العزيمة،
وليست المقدرات إنها الإرادة وليست الأسلحة المتطورة الحديثة، إنها العقيدة
الراسخة وليست الهلوسة البائسة، هذا هو السر، وهذا هو المفتاح.
لم يرهقنا أهل
غزة بالمطالب والاستغاثات وطلب المساعدات إنما أحرجونا بالاعتذار عن التقصير، وهذا
حال الكرماء تحسبهم أغنياء من التعفف.
رددت قول الله
تعالى، وأنا أغادر غزة: (وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم
مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ
وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55)(1).
_________________
(1) نشر بالعدد
(2037)، 14 ربيع الأول 1434هـ/ 26 يناير 2013م، ص26.