تحرير فلسطين.. كيف نحققه بين نهضة الشعوب وضعف الحكومات؟

تحقيق هدف
التحرير قد يستغرق أجيالًا وقد تتخلله هدنات أو مفاوضات.. والمهم أن يبقى الهدف
الرئيس واضحًا تمامًا وهو طرد المغتصبين من أرضنا والدفاع عن مقدساتنا
جاءت «انتفاضة
الأقصى» الأخيرة لتحطم عدداً من الأوهام وتسقط العديد من الأساطير، ولتحيي الأمل
من جديد في قلوب المخلصين من أبناء الأمة العربية والإسلامية.
لقد تساقطت
الأوهام كأوراق الشجر الذابلة وفي مقدمتها:
1- وهم تراجع
قضية فلسطين وانزوائها إلى ركن النسيان فقد عادت قضية القدس والمسجد الأقصى وتحرير
فلسطين إلى الصدارة من جديد بعد أن انشغلت الأمة عنها بأحداث جسام ذات خطر خلال
عقدين أو يزيد.
2- وهم موت
الشعب الفلسطيني وخضوعه للطوق الأمني الذي فرضته عليه الاتفاقيات الأمنية بين
السلطة والكيان الصهيوني خاصة بعد الضربات الأمنية القاسية ضد حركتي حماس والجهاد
الإسلامي وتكبيل كتائب عز الدين القسام بعد المطاردات المستمرة لأفرادها المجاهدين
ومصادرة مصانع السلاح البدائية ومعامل المتفجرات الخاصة بها.
فقد انتفض الشعب
الفلسطيني كله، وتوحدت الاتجاهات بما فيها حركة فتح التي تدعم السلطة الفلسطينية
في المفاوضات مع العدو، وظهرت أجيال جديدة ولدت بعد الانتفاضة السابقة في عام
1987م فقد رأينا أطفالًا في العاشرة حتى الخامسة عشرة يقذفون العدو بالحجارة
المباركة ورأينا الأمهات مع بكائهن يزغردن لمواكب الشهداء، وفرض الشعب الفلسطيني
على الشعوب العربية من جهة وعلى السلطة الفلسطينية من جهة أخرى واقعًا جديدًا جعل
قضية فلسطين القضية المركزية من جديد، فرض ذلك بدماء الشهداء وبتضحيات جسيمة أثمرت
دعماً ليس له حدود معنويًا وماديًا لا شك أنه سيقدم زخماً جديداً لاستمرار
الانتفاضة وعودة روح الجهاد من جديد.
3- سقط وهم أسرى
له الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال في الأراضي التي احتلت عام 1948م، فها نحن
نشاهد شعب فلسطين وراء الخط الأخضر يتظاهر ويقدم التضحيات كما قدمها إخوانهم في
الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويمثل المليون
فلسطيني في حيفا ويافا والناصرة وأم الفحم وغيرها مخزونًا إستراتيجيًا لمنظومة
الجهاد من أجل تحرير فلسطين، ويحتاج تفعيلهم والحفاظ عليهم كقوة استراتيجية إلى
رؤية واضحة لا تهدر طاقاتهم ولا تبدد إمكاناتهم وتبقي عليهم للجولة الحاسمة في
صراعنا مع العدو الصهيوني.
4- فشلت
المراهنات المستمرة من جانب العلمانيين والخاضعين لوهم التبعية والخضوع لأمريكا
واليهود على إمكان حسم أمريكا للنزاع وقدرتها على تحقيق سلام بين العرب والصهاينة
فقد ظهر انحياز أمريكا الكامل إلى الجانب الصهيوني، بل أظهرت بصفاقة تهديداتها
للسلطة الفلسطينية وللشعب العربي كما ظهر بوضوح الوهم الذي عاشت فيه أقلية من
هؤلاء العلمانيين وهم ما يسمى بحركات السلام الصهيونية فلم يسمع لهم أحد صوتًا إلا
تخوف البعض منهم من سيطرة الحركات الأصولية على الشارع العربي وحذرت من المصير
المظلم الذي سيواجه الكيان الصهيوني إذا أصبحت الحكومات إسلامية مبنى ومعنى.
5- عاد شعار
الجهاد لتحرير فلسطين ليخفق عاليًا من جديد في سماء الأمة، وفشلت التوقعات المريضة
حول أفول الحركات الإسلامية فقد عادت هذه الحركات لتقود الشارع من جديد ورأينا
لأول مرة مظاهرات مليونية في بعض العواصم العربية، بل رأينا لأول مرة مظاهرات في
بلاد لم يكن الخيال يتصور أن تجرى فيها مظاهرة أو مسيرة وصبت هذه الروح الجديدة
دماء جديدة في عروق الحركة الإسلامية حتى إن البعض يرجع نجاح الإخوان المسلمين في
مصر في الفوز بمقاعد برلمانية لهذا المناخ الجديد الذي ساد الشارع المصري والتعبئة
الإسلامية التي خفق بها شراع الحركة الإسلامية.
ولم يعد الجهاد
في سبيل الله شعاراً لحركة إسلامية، بل أصبح مطلباً جماهيرياً تنادى به جموع
الطلاب والشباب والرجال والنساء، بل الأطفال في الشوارع العربية كما سمعناه
بآذاننا "واحد اثنين، الجيش المصري فين" وهكذا عاد من جديد الوعي
بإسلامية القضية الفلسطينية وسقط وهم اختزالها في أنها قضية وطنية أو قومية وليس
أدل على ذلك من أن العواصم الإسلامية كلها تجاوبت مع انتفاضة الأقصى.
6- سقط وهم
التراجع العربي المستمر وخروج العرب من التاريخ، فقد فرضت انتفاضة الأقصى واقعاً
جديداً فها نحن نرى القادة العرب يسارعون إلى حضور القمة التي فرضتها الشعوب، فرضت
عقدها، وعجلت بموعدها، ووضعت جدول أعمالها، وواضح من كلمات الافتتاح التي ألقاها
القادة العرب في القمة الطارئة أن الشعوب نجحت في ظهور بعض القرارات، ومن أهمها
دعم الانتفاضة، وإعادة النظر في مجمل التسوية مع العدو.
ويبقى السؤال
إذن كيف نشق طريقنا التحرير فلسطين والمسجد الأقصى؟
حقائق لا بد منها
ينبغي في
البداية أن نقرر حقائق عدة:
أولًا: معركتنا
مع العدو الصهيوني معركة حق في مواجهة باطل، معركة وجود لا حدود، معركة تعتمد على
قوة العقيدة وقوة الإرادة.
ثانيًا: طريقنا
إلى تحرير فلسطين طويل، ويحتاج إلى بذل جهود أجيال من المجاهدين، وسننتصر خلاله إن
شاء الله في جولات، وقد تنكسر في جولات وتجربتنا خلال نصف القرن الماضي دليل على
ذلك.
ثالثًا: لا بد
من استعادة تاريخنا القديم مع الحديث عند وضع استراتيجية التحرير ولنا في جهاد
صلاح الدين الأيوبي خير مثال من القديم حيث حارب وسالم وجاهد وفاوض ولم يتخل أبدًا
عن هدف التحرير الكامل، واستطاع تحرير فلسطين والشام من الإمارات الصليبية التي
احتلته لمدة مائتي عام وسيطرت على القدس ٩٠ عامًا.
وكانت خطة صلاح
الدين تعتمد على محورين:
أ- توحيد الجبهة
الإسلامية في البلاد المحيطة بالإمارات الصليبية خاصة في الشام ومصر.
ب- حروب متصلة
تتخللها هدنات ومفاوضات مع الصليبيين الفرنجة.
- وهذا مثال
الحاكم المسلم الذي قاد بنفسه معركة التحرير.
- وفي تاريخنا
الحديث: ما زالت تجربة حزب الله وتحرير الجنوب اللبناني ماثلة أمام ناظرينا وها هي
معادلتها يمكن تركيبها من جديد:
- حركة مقاومة
تعتمد العقيدة والجهاد والاستشهاد.
- جبهة وطنية
متحدة من خلفها رغم أنها عملت في بلد متعدد الطوائف.
- دعم إقليمي
كامل لا يقيد الحركة، بل يطلق طاقاتها كافة في إطار الهدف الاستراتيجي الواضح.
وفي مقابل ذلك
نرى كيف تم خنق انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1987م تحت وهم التسوية وها هي تشتعل
من جديد، ولا تستطيع السلطة أن تخنقها لأنها انتفاضة شعب تحرر من الوهم الكاذب
بإمكان السلام مع عدو غادر غاصب لا يريد سوى الخضوع لأوهامه التاريخية التوراتية.
رابعًا: نحتاج
إلى سياسات مرحلية واضحة ذات نظر بعيد تعتمد على النفس الطويل ويتم من خلالها وضع
استراتيجية التحرير:
إستراتيجية:
الصمود وتحرير الإرادة ثم المقاومة المستمرة وحشد الجهود. ثم استعادة اللحمة بين
الشعوب والحكومات ثم توحيد الجبهة العربية ومن ورائها الجبهة الإسلامية.
ثم معركة
التحرير.
طريقنا إلى تحرير فلسطين
نحن الآن في
مرحلة جديدة من مراحل الصراع مع العدو الصهيوني، فقد أفاق العرب والمسلمون بعد قرن
كامل من الصراع على وضع جديد استثمر فيه العدو نصف قرن لغرس بذور كيانه المغتصب
ونصف القرن الأخير في تثبيت أقدامه بتواطؤ بعض الحكام وتخاذل البعض.
وخسرت الحكومات
العربية معاركها تقريبًا باستثناء حرب رمضان المجيدة وعاد الشعب الفلسطيني لخيار
المقاومة بنفسه وبأطفاله وبحجارته بعد أن علق أمالاً خادعة على الجيوش التي خذلته
في أربعة حروب مع العدو.
وانطلاقًا من
هذا الواقع الجديد فإن قراءة الأوضاع تضعنا أمام تحد كبير:
فبعض الحكومات
في جانب كما ظهر من البيان الختامي للقمة العربية الطارئة الأخير جانب ما يسمونه
الاعتدال والعقلانية الذي يعني الهروب من المواجهة الحتمية مع العدو، والشعوب في
جانب كما ظهر في استجابتها لانتفاضة الأقصى ثم رفضها لقرارات القمة التي لم تصل
إلى الحد الأدنى لمطالب الشعوب وهو قطع العلاقات مع العدو ووقف عملية التسوية
والمقاطعة الاقتصادية للعدو والدول المؤيدة له.
وها نحن نرى
بزوغ فجر المقاومة والانتفاضة من جديد وهي تحتاج إلى الدعم الكامل والحماية
اللازمة كي تستمر إلى أطول مدى ممكن حتى تصب نتائجها في الهدف الاستراتيجي الأخير
وهو تحرير فلسطين وحتى نصل إلى هذا الأمل الكبير لابد لنا من العمل على مستويين:
الأول: دعم خيار
المقاومة والصمود والوقوف في وجه كل محاولات الاستسلام المهين للهيمنة الأمريكية
والصهيونية، وقد يطول بنا طريق المقاومة.
الثاني: العمل
على تحرير الإرادة وتحقيق حرية الشعوب لتختار قرارها بحرية وتعظيم قدرات الشعوب
على محاسبة المسؤولين وتغييرهم عند اللزوم في شورى حقيقية حتى يتحقق الالتحام
الكامل بين طرفي المعادلة، وبذلك تتحرر الجيوش من الحظر المفروض على قدراتها
القتالية وبذلك يمكن حسم الصراع في جولته الأخيرة.
ولا بد من إضافة
مستوى ثالث يتمثل في توحيد الجبهة العربية على الأقل في بلاد الطوق أو الوصول إلى
مستوى عال من التنسيق يزيد على ما حدث في حرب رمضان وأن يكون الهدف النهائي واضحاً
وهو التحرير الكامل الأرض فلسطين المباركة.
ولا بد من الأخذ
في الاعتبار أن تحقيق هذا الهدف قد يستغرق أجيالًا وقد تتخلله هدنات أو مفاوضات
والمهم أن يبقى الهدف الرئيس واضحاً تماماً وهو طرد المغتصبين من أرضنا والدفاع عن
مقدساتنا.
دعم المقاومة
يتطلب تحقيق هذا
الهدف وهو واجب الوقت الحالي القيام بالواجبات التالية:
- دعم حركات
المقاومة الصامدة في الأرض المحتلة.
- تقديم كل
ألوان المساعدة لأهلنا في فلسطين للحفاظ على روحهم المعنوية عالية والوقوف بجوار
أسر الشهداء والمرضى حتى تستمر الانتفاضة وتشتعل نار الغضب ضد الاحتلال.
- مد اليد لأهل
القدس بكل دعم وهم المرابطون في جوار المسجد الأقصى.
- الحفاظ على
متانة الجبهة الداخلية الفلسطينية التي وحدتها انتفاضة الأقصى والحذر كل الحذر من
فتنة الاقتتال الداخلي مع إبقاء خيار المقاومة المسلحة ضد العدو وهي المعادلة
العسيرة إلا أن حركات المقاومة حافظت عليها حتى الآن.
- تحقيق جسور
الاتصال مع الأهل في أرض 1948م للإبقاء على هويتهم الإسلامية والعربية والاحتفاظ
بهم كقوة رئيسة لا يجوز إهدارها في المراحل المبكرة من الصراع.
المقاطعة
الكاملة للسلع والخدمات الصهيونية والأمريكية كافة.
إصلاح الحكومات
وهذا هدف لا يقل
أهمية ويحتاج إلى عمل شعبي سياسي ودعوي وتربوي شامل ولا يسعف المجال بالحديث
المفصل عنه ويكفي على الإجمال أن تلتف الشعوب حول الحركات الإسلامية والوطنية
الأصيلة مع السعي لتحقيق الحرية الكاملة للشعوب عن طريق المطالبة بالإصلاح السياسي
الذي يبدأ بالانتخابات الحرة الحقيقية حتى تأتي برلمانات تعبر عن إرادة الشعوب في
بداية طويلة لبعث جديد حول راية الإسلام والحرية(1).
__________________
(1) نُشر بالعدد
(1427)، 25 شعبان 1431هـ/ 21 نوفمبر 2000م، ص44.