12 فبراير 2025

|

تحويل القبلة والبناء الحضاري للأمة

د. أشرف عيد

12 فبراير 2025

293

ارتبط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام بحدثين مهمين في الإسلام، أولهما: الإسراء والمعراج؛ حيث فرضت الصلاة، وثانيهما: تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، في منتصف شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة، على الأرجح، وفقًا لرأي الجمهور؛ وورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم الإشارة إلى فضل المسجد الأقصى في حديث: "لا تشد الرحال إلا ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدِ الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومسجدِ الأقصى". ويعلق عليه ابن حجر بأن هذا الحديث يدل على فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها، لكونها مساجد الأنبياء، فلأن الأول قبلة الناس، وإليه حجهم، والثاني أسس على التقوى، والثالث كان قبلة الأمم السابقة (1).

 

والبناء الحضاري لأي أمة من الأمم هو النتاج الفكري والثقافي والمادي المتراكم والذي يمنحها خاصية مميزة عن الأمم الأخرى، ويقوم على أسس فكرية تنظم الحياة السياسة والاقتصادية والاجتماعية تسهم في إقامة بناء حضاري متكامل، وإذا نظرنا إلى تحويل القبلة وأثره في البناء الحضاري للأمة فإننا نجد أنه قام على بناء الجوانب الإيمانية التي تمثل القوانين والنظم التي تطبق في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والاستقلال السياسي بعيدا عن القوى السياسية المعاصرة لها.

 

كان النبي، عليه الصلاة والسلام، يعمل على تنظيم الدولة عن طريق وضع الترتيبات الإدارية في الحياة المدنية والحربية، فكان تحويل القبلة ترسيخا للجوانب الفكرية والإيمانية في طاعة الله ورسوله، والاستقلال العقائدي بعيدًا عن عبادة الأوثان أو رغبات اليهود وانحرافهم ودفع شبه الولاء السياسي للبيزنطيين.  

 

- تحويل القبلة وبناء الجوانب الإيمانية 

 

بناء العقيدة الإيمانية في الإسلام يقوم على أساس التصديق والطاعة المطلقة لله ولرسوله، كما نص على ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية، والتي ظهر أثرها في الجوانب العملية التطبيقية في الأحداث المختلفة، كما في "الإسراء والمعراج"، و"تحويل القبلة"، وتحريم الخمر وغيرها من الأحدث التي أثبتت صدق المؤمنين في طاعتهم لله ورسوله.

 

وقد صلى رسول الله، في المدينة قِبَل بيت المقدس نحو سبعةَ عشر شهرًا، على نحو ما يرى الجمهور، حتى نزل الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في قوله سبحانه: (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة:144)؛ فخرج رجل ممن صلَّى مع رسول الله، صلى عليه وسلم؛ فمر على أَهل مسجدٍ وهم راكعون؛ فقال: أَشهد باللَّه لقد صلَّيت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قِبَل مكةَ؛ فداروا كما هم قبل البيت. (2).

 

كان "تحويل القبلة" بمثابة اختبار للمؤمنين في طاعتهم لله ورسوله وصدق إيمانهم، خلافًا لمن انقلب على عقبيه، وأعرض عن الحق، واتبع هواه؛ فيقول سبحانه: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ) (البقرة:143)، فكان المسلمون يقولون: "سمعنا وأطعنا" في كل ما يأمرهم به الله ورسوله، خلافًا لبني إسرائيل الذين بلغ بهم السفه أن قالوا لنبيهم: "سمعنا وعصينا"، واتبعوا أهواءهم، وجادلوا في كل ما يأمرهم به أنبياؤهم. 

 

وقد أثمرت تلك التربية الإيمانية عقب وفاة النبي في اجتماعهم على اختيار أبي بكر الصيق خليفة لرسول الله ملتمسين خطى رسول الله، فكان هذا أول ممارسة سياسية ناجحة للمسلمين.

 

تحويل القبلة والاستقلال العقائدي للأمة

 

يرى الشيخ الشعراوي أن من أسباب اتجاه المسلمين إلى قبلة بيت المقدس أن الكعبة في ذلك الوقت لم تكن قد خلصت لله تعالى، فقد اتخذها الكفار مقرًا لأصنامهم، وكانوا يطلقون عليها بيت العرب، فلو أنهم توجهوا إلى الكعبة لكان مثلهم كمثل العرب في اتجاههم للأصنام، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يستقر في الأذهان أولاَ أن هذا هو بيت الله، وليس بيت العرب استقرارًا عقائديًا، كما أنه لم يكن للمسلمين ولاية على البيت، بدليل أن المسلمين حينما تمكنوا من الكعبة كسروا الأصنام من حولها، فإذا اتجهوا إليها وهي خالية تمامًا من الأصنام كان الاتجاه لله لا إلى الأصنام. (3).

 

اتخذ اليهود كدأبهم تحويل القبلة ذريعة لإثارة الشبهات حول الإسلام، ورغبة منهم أن يحاكي المسلمون سلوكهم واختلافهم مع أنبيائهم؛ حيث أشاعوا بين الناس أن محمدًا اتبع قبلتنا، وأوشك أن يتبع ديننا! 

وهو وهم باطل سكن في نفوسهم التي تتخيل ثم تخال ثم تعتقد، واعتبروا أن الاتجاه إلى بيت المقدس نوع من اقتباس الهدى منهم، كشأن أصحاب الديانات الذين لا يؤمنون بالديانة الأعلى إلا أن تكون أماني لهم أو تتفق مع أمانيهم، وساروا بين المسلمين بدعواهم: (كونُوا هـُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَـدُوا) (البقرة:135)، فكان هذا الموقف منهم شديداً على نفوس المسلمين والنبي؛ فكان تحويل القبلة إعلانا بانتقال النبوة من بني إسرائيل إلى أمة العرب، والاستقلال العقائدي بعيدًا عما يمكن أن يثيره اليهود من شبهات حول عقيدة المسلمين.

 

ولما امتثل المسلمون لأمر الله في تحويل القبلة تغيظ اليهود، وازدادوا سفاهة كما وصفهم القرآن "السفهاء"، وسعوا إلى بث الشقاق والشائعات والريبة بين المسلمين بقولهم: قد التبس عليه أمره وتحير، وخالف قبلة الأنبياء من قبله، ولو كان نبياً حقاً لاتبع قبلة الأنبياء من قبله! 

وقالوا: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْـلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (البقرة:142). 

فأبطل الله قولهم بقوله: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة؛142)، ورد الله على ما أثاروه من شبهات حول من مات من المسلمين، وكانت صلاته إلى بيت المقدس، بقوله سبحانه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (4).

 

هكذا كان تحويل القبلة بمثابة اختبار لإيمان المسلمين وتصديقهم المطلق لله ورسوله، وعدم تأثرهم بما يثيره اليهود من شبهات حول العقيدة، ولم ينخدعوا بدعواهم ومحاولتهم زعزعة عقيدتهم بما يثيرونه من حين لآخر ومحاولة الاقتداء بهم في عصيانهم لأنبيائهم.

 

- تحويل القبلة والبناء السياسي لدولة الإسلام

 

كان لتحويل القبلة دلالات سياسية مستقلة للأمة بعيدًا عن الولاء السياسي للقوى السياسية المعاصرة لهم، فقد كان بيت المقدس يقع تحت سلطة الإمبراطورية البيزنطية سياسيًا وإداريًا، وكانت القبائل العربية في بلاد الشام تدين لها بالولاء والطاعة، فكان تحويل القبلة إعلانا بقيام الأسس الحضارية للأمة الإسلامية بعيدا عن التبعية السياسية أو الدينية للدول الأخرى التي تحاول توسيع نطاق سلطانها، وقد تأكد ذلك فيما بعد من خلال رسائل رسول الله إلى الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية للدخول في الإسلام؛ إعلانا منه بنشأة دولة الإسلام التي سترث أراضيهما، وما حدث من احتكاك عسكري في غزوة مؤتة (8 هـ)، ثم غزوة تبوك (9 هـ)، وما أثمر عنه فيما بعد من فتح الشام وفارس في خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. 

 

 

 

 

(1) فتح الباري؛ كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ج 3 ص63،64، رقم الحديث 1189. 

 

(2) فتح الباري؛ كتاب الإيمان، باب الصَّلاةُ مِنَ الإِيمانِ، ج1 ص95، رقم الحديث 40.

 

(3) فتاوى الشعراوي؛ إعداد: د. السيد الجميلي، المكتبة التوفيقية، القاهرة، 1999 م، ص 231.

 

(4) القرطبي؛ الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة الرسالة، 2006، ج1ص148.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة