تراحم الجسد الواحد.. بلاغة اللفظ وعمق المعنى

د. رمضان فوزي

24 سبتمبر 2025

28

يمثل البيان النبوي كنزًا فريدًا في عمقه وإيجازه؛ حيث يُجسّد أسمى المعاني بأقل الألفاظ؛ فهو كما وصفه الجاحظ في «البيان والتبيين» «الكلام الذي قلّ عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلف».

ونقف في السطور التالية مع حديث من روائع الهدي النبوي الذي جمع بين بلاغة اللفظ والصورة وعمق المعنى والدلالة؛ فعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

المتدبر لبلاغة هذا الحديث يجده ليس مجرد تشبيه بلاغي عابر، بل هو تشبيه تمثيلي عميق؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عند مجرد تشبيه المؤمنين بالجسد فحسب؛ بل شبّه حالتهم في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم بحالة الجسد الواحد الذي يتأثر كله بألم جزء منه، هذا الإيجاز البليغ يحمل في طياته معانيَ ضخمة، ويقدم قواعد تربوية واجتماعية عظيمة.

فصاحة الألفاظ ودلالة الصيغ

تتمثل فصاحة اللفظ النبوي في هذا الحديث بصورة واضحة جلية من خلال دقة الألفاظ وحسن نظمها في نسق بلاغي معبر عن حالة الأخوة والترابط التي ينبغي أن تكون عليها الأمة، وذلك من خلال الألفاظ التالية:

  • التراحم: وهو شعور القلب بالرحمة والشفقة.
  • التواد: التعبير عن الحب المتبادل بالقول والفعل.
  • التعاطف: المشاركة الوجدانية والعملية في الهم والكرب والألم.

والمدقق في هذه الألفاظ يجد أنها تترابط لتظهر أن العلاقة بين المؤمنين علاقة متكاملة، تبدأ من القلب (التراحم)، وتتجسد في المودة (التواد)، ثم تتحول إلى عمل وإحساس مشترك (التعاطف).

وحول هذا الترتيب العجيب يقول د. علي صبح: «تظهر بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم في ترتيبه بين الصفات والأعمال الإنسانية ترتيبًا واقعيًا في نمو وتصاعد مطرد؛ بحيث تترتب الصفات والأفعال بعضها على بعض مثل تسلسل المشاهد وتناميها في الرواية والقصة؛ فقد ترتب التواد على التراحم، وتنامى عنه وزاد عليه في الصفات والأعمال، وترتب التعاطف على التواد، وتنامى عنه وزاد عليه في الصفات والأعمال» (التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف).

ثم يأتي الفعل «تداعى له» ليحمل معنى الاستجابة السريعة والتحرك الفوري، وكأن باقي أعضاء الجسد تستنفر لنجدة العضو المريض؛ وهو ما يوحي بضرورة المسارعة في نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف.

وتتكامل الفصاحة النبوية في اختيار الألفاظ في صيغ هذه الألفاظ؛ حيث جاءت على صيغة المفاعلة التي تدل على المشاركة والتفاعل من جميع أعضاء المجتمع المسلم الذي يشعرون بألم أخيهم بصورة تلقائية ديناميكية كما تشعر أعضاء الجسد الواحد بألم عضو منها؛ فتتفاعل معه بالسهر والحمى، ولكن سهر الأمة هنا يكون بإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب ومساعدة المحتاج.. إلخ.

براعة الخيال وحسن التصوير

ولم يتوقف نهر الفصاحة النبوي عند الجانب اللفظي والمصطلحي فقط، بل تمثل أكثر ما يتمثل في هذا التشبيه التمثيلي الذي جسد به الرسول صلى الله عليه وسلم هذه العلاقة بين أفراد الأمة، فهم في حالة من التراحم والتواد والتعاطف كالجسد الذي تتداعى أعضاؤه بسبب ألم أصاب عضواً منه.

ولا شك أن قمة الفصاحة النبوية هنا تتمثل في توظيف النبي صلى الله عليه وسلم للتشبيه التمثيلي الذي يُعد وسيلة بلاغية تهدف إلى تحويل المعاني المجردة لصور حية ومقنعة؛ حيث تقوم بتجسيد المعاني المجردة، وزيادة الإقناع والتأثير، بحيث يقدم رسالة شاملة، فالتشبيه التمثيلي يمتاز بقدرته على تلخيص عدة أجزاء من الفكرة في صورة واحدة، فبدلاً من شرح كل صفة على حدة، يُقدم صورة مركبة تجمع بين المشبه (أخوة المؤمنين) والمشبّه به (الجسد الواحد) في كل تفاصيلهما؛ فهو يساهم في الإيجاز البليغ وتركيز الرسالة.

وفي النهاية، نؤكد أن هذا الهدي النبوي يتكامل مع ما جاء في القرآن الكريم من آيات الأخوة والوحدة والتعاون، مثل قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وقوله عز وجل: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ) (المائدة: 2).

هذه النصوص جميعها تؤكد أن الألفة والرحمة بين المؤمنين ليست خيارًا، وإنما واجب إيماني، الأمة أحوج ما تكون إليه الآن في ظل ما يصيب أجزاء كبيرة منها من اعتداءات وكوارث ومصائب تنتظر وتترقب من باقي أعضاء الجسد الواحد أن تتداعى له بالسهر والإغاثة والمساعدة والنجدة والنصرة.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة