تربية الأطفال بالحب

تمثل الصحة النفسية للطفل إحدى الركائز الأساسية في بناء شخصيته واستقراره
الاجتماعي، وهي قضية تتعاظم أهميتها مع التغيرات السريعة التي يشهدها عصرنا
الجاري، الذي يجد أبناؤنا فيه أنفسهم محاصرين بكل أنواع الملهيات والمشتتات، بل
والمفسدات، التي تفسد عليهم سواء نفسيتهم، بما ينعكس سلباً على سلوكهم وبالتالي
على مجمل حياتهم.
وإذا أردنا معالجة هذا الواقع المعقد، فإن رؤيتنا للتربية الإسلامية يجب أن
تكون انطلاقاً من رؤية متكاملة لصحة الطفل النفسية، بحيث تركز على تنشئته في بيئة
متوازنة تتسم بالمحبة والعدل والتوجيه القويم؛ ما يسهم في تكوين شخصية سوية قادرة
على مواجهة تحديات الحياة.
هنا تؤدي الأسرة الدور الأهم في تشكيل نفسية الطفل، فهي المحضن الأول الذي
يتلقى فيه القيم والمفاهيم التي تؤثر على سلوكه ومعتقداته، وهي البيئة التي يفترض
أن تكون آمنة ومستقرة، تقوم على العدل والرحمة، وترجمة عملية لأمر النبي صلى الله
عليه وسلم لأولياء الأمور: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» (رواه البخاري،
ومسلم).
تؤكد الدراسات النفسية أن الأطفال الذين ينشؤون في أسر مستقرة نفسياً
يتمتعون بثقة أكبر بأنفسهم وقدرة أعلى على التفاعل الإيجابي مع المجتمع، وأن
الأطفال الذين يتعرضون لممارسات أسرية قائمة على الحوار والتوجيه الهادئ، يكونون
أقل عرضة للاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب، وهي الاضطرابات المصاحبة
لانتشار التكنولوجيا الحديثة والاستخدام المفرط لها.
وإذا كانت منظمة الصحة العالمية تحذر من أن التعرض المفرط للشاشات قد يضعف
الروابط الأسرية ويؤدي إلى عزلة الأطفال عن بيئتهم الحقيقية، فإن رؤيتنا للتربية
الإسلامية أشمل من زاوية النظر الصحي، إذ إن التحديات الأخرى التي يواجهها أطفالنا
اليوم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتهديدات من شأنها إحداث اضطرابات بهويتهم، خاصة في
ظل الانفتاح الإعلامي الكبير.
هنا تتجلى أهمية التربية الإسلامية في تعزيز هوية أطفالنا من خلال تعليمهم
العقيدة الصحيحة، وغرس قيم الانتماء للأسرة والمجتمع، وهي المسؤولية التي جعلها
الله ضمن مسؤولية أولياء هؤلاء الأطفال، كما ورد في التوجيه الرباني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (التحريم: 6).
منهج تكامل
وقد قدمت التربية النبوية ترجمة عملية ومنهجاً متكاملاً يراعي الجانب
النفسي للطفل، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على التعامل مع الأطفال برفق
وحنان، وهو ما قدم له حديث أنس بن مالك وصفاً ملخصاً بقوله: «ما رأيت أحداً كان
أرحم بالعيال من رسول الله» (صحيح مسلم).
فالتربية النبوية خلاصتها القيام على تقويم الأطفال بمبدأ الحب غير
المشروط، وهو ما أثبتت الدراسات النفسية الحديثة أهميته، ومن أبرز الأساليب
الفعالة في هذا الصدد «المدح الإيجابي» للأبناء، وهو ما بدا جلياً في علاقته
بالصحابي الجليل عبدالله بن عباس، الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم: «الله
فقهه في الدين».
وقد أشارت دراسة نشرتها مجلة «ابن خلدون» إلى أن التربية بالحب في الإسلام
تعزز الصحة النفسية للأطفال، وتثبت أن العلاقة بين التربية بالحب والصحة النفسية
وثيقة؛ فكلما كانت التربية قائمة على الحب؛ كانت الصحة النفسية أفضل.
التفاعل الاجتماعي
من الجوانب الأخرى التي ركز عليها المنهج النبوي الاهتمام باللعب والتفاعل
الاجتماعي مع الأطفال، وهو ما نقلت مرويات السيرة النبوية تجليه في علاقته بالحسن
والحسين رضي الله عنهما، في عديد المواقف، التي بلغت حد حملهما وهو يخطب في
المسجد، كما ورد في سنن الترمذي.
مثل هذه الأمثلة لا تقدم برهاناً على عظمة النبي صلى الله عليه وسلم،
ورحمته فقط، بل تؤشر إلى أهمية اللعب في النمو النفسي والعاطفي للطفل، وهو ما
تؤكده جل الدراسات الحديثة، ومنها دراسة صادرة عن المركز العربي للبحوث النفسية أن
الأطفال الذين يحظون بأوقات لعب كافية يكونون أقل عرضة للاضطرابات السلوكية وأكثر
قدرة على التكيف الاجتماعي.
ولذا، فإن الأساليب التربوية وتأثيرها على الصحة النفسية للطفل تؤدي دوراً
رئيساً في مواجهة تحديات العصر، وهي الأساليب التي يجب ربطها بدين الأبناء وهويتهم
على التوازي مع توافقها مع معطيات الزمن المعاصر.
فعلى سبيل المثال، يعد ضبط استخدام الأطفال التكنولوجيا من الأمور بالغة
الأهمية في تربيتهم، خاصة في الفئة العمرية من 3 - 6 سنوات، إذ توصي الدراسات
النفسية بضرورة وضع قيود واضحة على أوقات استخدام الأجهزة الذكية، إلى جانب تشجيع
الأطفال على ممارسة أنشطة بديلة مثل القراءة والرياضة؛ ما يساعدهم على تنمية
مهاراتهم الاجتماعية والذهنية بعيداً عن العزلة الرقمية.
كما أن تعزيز الحوار الأسري يعد ركناً أساسياً في التربية السليمة، وعليه
فإن تخصيص الآباء والأمهات لوقت يومي يستمتعون فيه مع أطفالهم ويتفاعلون معهم ليس
ترفاً من العيش، وإنما أساس في خلق بيئة نفسية مستقرة، تدفع الأطفال إلى التعبير
عن مشاعرهم دون خوف أو تردد؛ ما يقلل من احتمالية تعرضهم للضغوط النفسية
ومضاعفاتها.
أما فيما يخص غرس القيم الإسلامية، فإن الأسلوب العملي في التربية هو
الأكثر تأثيراً، فحب أداء العبادات يبدأ من مشاهدة الأطفال للآباء والأمهات في
صلوات متعددة، ثم يتعزز بالترغيب الفظي عبر أسلوب محبب بعيد عن القسر والإلزام، مع
تقديم نماذج قدوة من السيرة النبوية تحاكي واقعهم وتساعدهم على استيعاب القيم
الأخلاقية بسهولة.
هذا الأسلوب العملي ترجمه الحسن، والحسين، رضي الله عنهما، في تعليمهما
الوضوء للرجل المسن الذي كان يخطئ فيه دون كثرة وعظ أو إرشاد، كما ورد في صحيح
مسلم وسنن أبي داود، وهو ما تعلماه في مدرسة النبوة، فالأفعال أصدق إنباء من
الأقوال، ورب موقف أبلغ من ألف موعظة.
الرجل لم يغسل يديه أو قدمه بشكل صحيح، فشاهد الحسن والحسين وقررا أن
يعلماه الطريقة الصحيحة، فقال الحسن: «يا أخي، نحن قد صلينا خلف رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو الذي علّمنا كيفية الوضوء»، فيما طلب منه الحسين التحكيم
بينهما وتحديد من هو الأدق وضوءاً، فما كان من الرجل إلا أن أقر بخطئه وأبدى
امتنانه لأدب سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن هويتنا جزء لا يتجزأ من تكوين أطفالنا النفسي، وليس كافياً أبداً
الاقتصار على ضمان ترفهم المعيشي دون تحصين أخلاقي وقيمي، فكم من آباء ضمنوا رغد
العيش لأبنائهم وأضاعوا عليهم دينهم وآخرتهم، فماذا ربح من فاز بدنيا فانية، وخسر
الحياة الباقية؟!