دور أنقرة بالشرق الأوسط بعد حرب غزة وسقوط النظام السوري

تركيا.. والتوازنات الإقليمية الجديدة

د. سعيد الحاج

06 أكتوبر 2025

53

تشهد المنطقة في السنوات الأخيرة سلسلة من التغيرات المستمرة والمتلاحقة ازدادت وتيرتها مؤخراً، وباتت أقرب للتأثير على منظومة التحالفات والعلاقات السائدة فيها تقليدياً منذ عقود، تبدو تركيا في القلب منها تأثراً وتأثيراً.

بدأ الأمر في سلسلة تطبيع العلاقات وتدوير زوايا الخلاف بين عدد من الأطراف الإقليمية الوازنة، مثل المصالحة الخليجية بعد حصار قطر، وتطوير العلاقات بين تركيا وكل من السعودية والإمارات ومصر، والاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية، وقبل ذلك ومعه اتفاقات التطبيع التي جمعت عدداً من الدول العربية مع الكيان الصهيوني وتطوير العلاقات بين الأخير وتركيا.

أيضاً في السنوات القليلة الأخيرة شهدت المنطقة والعالم عدة تطورات جذرية ساهمت إلى حد بعيد في هز المرتكزات للأمن الإقليمي والدولي، بدءاً من الحرب الروسية – الأوكرانية وارتداداتها الدولية، مروراً بمعركة «طوفان الأقصى» وتبعاتها ومن ضمنها حرب الإبادة المستمرة في غزة التي اتسعت إلى نطاق إقليمي شملت بدرجات متفاوتة كلاً من لبنان وسورية وإيران واليمن، وليس انتهاءً بسقوط النظام السوري الذي أضعف النفوذ الروسي في سورية والمنطقة وأخرج إيران من المعادلة السورية بشكل شبه نهائي.

الانخراط الأمريكي المباشر بالمنطقة

في القلب من كل ذلك، تسعى الولايات المتحدة الأمريكية، على الأقل منذ بدء «طوفان الأقصى» وبشكل أكثر دقة مع إعادة انتخاب دونالد ترمب رئيساً لها لمنطق الانخراط المباشر في الحرب بالمنطقة واستعادة نفوذها كقوة عظمى واحدة ومتفردة كما كانت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة مباشرة، كما وجد الكيان الصهيوني نفسه أمام خطر وجودي بتآكل نظريته الأمنية القائمة على الردع من جهة، وإزاء فرصة تاريخية لفرض هيمنته على كامل المنطقة بالقوة الغاشمة وفق حلم «إسرائيل الكبرى» الذي أعاد رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو الحديث عنه من جهة أخرى.

بهذا المنطق، لم يكتف الكيان بحرب الإبادة والحصار والتجويع والتهجير في غزة واستباحة الضفة الغربية المحتلة تمهيداً لضمها، لكنه تجاوز ذلك نحو الحرب على لبنان واستمرار انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار بالبقاء في 5 تلال إستراتيجية في الجنوب اللبناني وعدم توقف الاغتيالات والاستهدافات لـ«حزب الله» وغيره، وإلغاء اتفاق فض الاشتباك مع سورية، وتعميق احتلاله لأراضيها وتنفيذ عمليات توغل واغتيالات واعتقالات والتشدق بدعم أطياف سورية داخلية بغية تقسيم البلاد، والعدوان على إيران لإسقاط نظامها وتدمير مشروعيها النووي والصاروخي، واستهداف اليمن مرات عديدة من بينها اغتيال رئيس حكومة صنعاء وعدد من وزرائه، وانتهاك سيادة تونس باستهداف سفن كسر الحصار ضمن «أسطول الصمود العالمي»، وسيادة قطر بمحاولة اغتيال وفد التفاوض في حركة «حماس» بالدوحة.

مؤشر خطير

الحدث الأخير كان مؤشراً خطيراً توقفت عنده مختلف القوى الإقليمية لدلالاته الواضحة والمقلقة؛ فمن جهة استهدفت قوات الاحتلال اغتيال وفد التفاوض وهو يناقش مقترحاً من الرئيس الأمريكي لوقف إطلاق النار في غزة، ومن جهة أخرى كان القصف في قطر التي تتوسط المفاوضات وهي أحد حلفاء واشنطن في المنطقة، ومن جهة ثالثة سارع الكيان لتبني العملية التي أتت بالشكل الأكثر وضوحاً وفجاجة؛ أي القصف الجوي، ومن جهة رابعة كان واضحاً أن الأمر تم بموافقة وضوء أخضر من إدارة ترمب الذي وصف العملية بأنها «عمل نبيل» وإن تحفظ على مكانها (الدوحة) كتنصل منها بعد فشلها.

قصف الدوحة كان يعني أمرين أساسيين؛ أن الكيان لن يتوقف في عدوانه وطغيانه في المنطقة عند أي حد منطقي؛ وبالتالي قد يعيد استهداف قطر أو أي دولة عربية أو إسلامية أخرى بنفس الذريعة (استضافة شخصيات من حركات المقاومة الفلسطينية) أو أي ذريعة أخرى، وأن الولايات المتحدة يمكن أن تدير ظهرها لكل حلفائها وتغض الطرف عن استهدافهم وانتهاك سيادتهم والإضرار بهم ما دام الأمر مرتبطاً بالكيان الصهيوني، الذي تخوض معه الإدارة الأمريكية (الديمقراطية ثم الجمهورية) الحرب كتفاً بكتف.

ضمن ارتدادات الحدث وعلى هامش الإدانات الإقليمية والدولية له، كإشارة على ذروة العدوان «الإسرائيلي» في المنطقة وتغير منطق واشنطن في التعامل مع حلفائها، بدأت بعض القوى الإقليمي بالتحرك في اتجاه تعزيز الحماية الذاتية، مثل الاتفاق السعودي – الباكستاني، والتقارب التركي – المصري، وغير ذلك.

تركيا في قلب المتغيرات

ترى تركيا نفسها في قلب هذه المتغيرات وضمن أهدافها المستقبلية المحتملة، فقد رأت في العدوان «الإسرائيلي» على غزة ولبنان تهديداً للأمن الإقليمي، ثم تهديداً مباشراً لها، كما استخلصت من «حرب الـ12 يوماً» بين إيران والكيان دروساً لنفسها بخصوص تقوية الجبهة الداخلية من ملاجئ وبرامج صاروخية ومنظومات دفاع جوي كما لو أنها ستتعرض لنفس الهجوم من الكيان، وركز الرئيس رجب طيب أردوغان في أكثر من خطاب له تعقيباً على الإبادة في غزة أو توسع الحرب في المنطقة على ضرورة تعزيز تركيا القوية.

وفي لقائه الأخير مع نظيره الأمريكي على هامش مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان واضحاً حرص أردوغان على الاستفادة من العلاقة الشخصية الجيدة مع ترمب والقوة المتعاظمة لبلاده في المنطقة لحسم بعض الملفات المهمة لأمنها القومي، وفي مقدمتها ملف التسليح (مقاتلات «F35» و«F16» على وجه الخصوص) وملف «قوات سورية الديمقراطية» (قسد).

ففي المنظور التركي، صحيح أن الولايات المتحدة عادت وانخرطت في ملفات المنطقة بشكل مباشر وتريد فرض هيمنتها من جديد، إلا أنها تسعى من جهة أخرى لإسناد بعض الملفات الإقليمية لبعض حلفائها، وترى أنقرة نفسها جديرة بذلك، وتحديداً في الملف السوري، بعد تعزيز قدراتها الذاتية، ودورها المتعاظم في سورية، ونفوذها المتعزز في المنطقة عموماً، وتوحي بعض المؤشرات بأن الولايات المتحدة بصدد فعل ذلك، بالنظر لبعض التصريحات الأمريكية بخصوص «قسد» وسورية عموماً، وحملة التعيينات التي غيّرت عدة مسؤولين أمريكيين معنيين بالملف السوري.

اعتماد العالم العربي والإسلامي على قدراته الذاتية

في القمة العربية الإسلامية في الدوحة، بعد الهجوم «الإسرائيلي» على قطر، أكد الرئيس التركي ضرورة اعتماد دول العالم العربي والإسلامي على قدراتها الذاتية وعلاقاتها البينية لحماية أنفسها، مؤكداً استعداد بلاده لممارسة دور رئيس في ذلك وتحديداً ملف الصناعات الدفاعية التي قطعت فيها أنقرة أشواطاً مهمة.

في الخلاصة، يبدو أن القوى الإقليمية قد خلصت لنتيجة أن مظلة الولايات المتحدة قد لا تكفي لحمايتها حين يرتبط الأمر بالكيان الصهيوني؛ ما دفعها للبحث عن مظلات وخيارات إضافية، وفي ظل تردد القوى العظمى الأخرى -الصين وروسيا- في ملء الفراغ الأمريكي لأسباب عديدة، يبدو أن إعادة النظر في منظومة التحالفات والعلاقات الإقليمية سيكون الخيار المتاح حالياً.

المثير للاهتمام أن تركيا تقع في القلب تماماً من هذه المتغيرات والتحركات الجديدة، إذ تتمتع بالعديد من المزايا التي تؤهلها لممارسة دور محوري في هذا الإطار، من الجغرافيا للجيوبوليتيك، ومن القوة العسكرية للصناعات الدفاعية، فضلاً عن توفر الطموح والإرادة السياسية لذلك، كما أنها تشكل بالنسبة للعديد من الدول العربية والإسلامية طرفاً موثوقاً على هذا الصعيد.

تركيا طرف رئيس في التفاعل والتأثير

ختاماً، جعلت المتغيرات الإقليمية والدولية في السنوات الأخيرة تركيا طرفاً رئيساً من حيث التفاعل والتأثير في عدد من الملفات الإقليمية من فلسطين إلى لبنان ومن سورية إلى ليبيا ومن إيران إلى شرق المتوسط، كما تدفعها هذه المتغيرات إلى مزيد من تعزيز القدرات الذاتية وتمتين علاقاتها الإقليمية، خصوصاً وأن عدة تقارير أكاديمية وأمنية باتت تضع احتمال المواجهة العسكرية المباشرة أو غير المباشرة مع الكيان الصهيوني على طاولة البحث وضرورة الاستعداد لهذا السيناريو.

وإذا كان أحد قرارات البوصلة الجديدة للسياسة الخارجية التركية منذ عام 2021م تنسيق المواقف في الملفات الإقليمية مع الدول الفاعلة التي كانت أنقرة على خلاف معها، وتحديداً السعودية ومصر والإمارات، فيبدو أن هذا التوجه تعزز مع التطورات الأخيرة؛ ولذلك نرى الموقف التركي لا يبتعد كثيراً عن مواقف هذه الدول ولا يمتاز عنها، بل يسعى للتنسيق معها إلى حد كبير، ويمثّل اجتماع الدول العربية والإسلامية السبع التي من ضمنها هذه الدول (إضافة لقطر والأردن وباكستان وإندونيسيا) مع الرئيس الأمريكي ترمب قبيل إعلان خطته لوقف إطلاق النار في غزة ثم البيانات المشتركة لهذه الدول بخصوص المسار؛ يمثّل نموذجاً حياً على ذلك.  

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة